Main Content
عاملة مهاجرة تقطف البامية من حوض قائم في منتصف  درج البرجاوي في الناصرة، الأشرفية. بيروت، لبنان. ٢٠١٨. (دانه  مزرعاني، مختبر المدن بيروت)

عاملة مهاجرة تقطف البامية من حوض قائم في منتصف  درج البرجاوي في الناصرة، الأشرفية. بيروت، لبنان. ٢٠١٨. (دانه  مزرعاني، مختبر المدن بيروت)

أهمية الممارسات الاجتماعية-المكانية في التعافي المديني

أدّى انفجار مرفأ في بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠ إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات وسبل العيش، وعطّل الممارسات الاجتماعية-المكانية الحيوية التي تجلّت في المساحات المشتركة ضمن الأحياء القريبة من المرفأ. إن بيروت مدينة مكتظة وذات مستويات عالية من التمدّن ومساحاتها العامة المفتوحة ضئيلة وتعاني من سوء التصميم والإدارة، إلا أنها لا تزال تتميز بحياة عامة غنية وحيوية على الرغم من تراجعها التدريجي. تتضمن العاصمة ٢١ منتزهًا عامًا وحديقة، وكورنيش بحري، وبعض المساحات الساحلية المتاحة للعامة، تبلغ مساحتها الكلية أقل من متر مربع واحد لكل شخص (الشكل ١).١

لكن معظم الممارسات الاجتماعية-المكانية تتجلّى في مساحات مدينية أخرى، غير مخططة، تتميز غالبًا بإيقاعها الخاص ومواقيتها. نرصد هذه الممارسات عند الصباح الباكر في شارع في الجعيتاوي، حيث يطل صائغ  من باب محله الصغير حاملًا صينية معدنية عليها فنجانان من القهوة الساخنة التي اشتراها من كشك القهوة. يجلس الصائغ على أحد كرسيي البلاستيك اللذَيْن وضعهما على الرصيف بانتظار جاره وكيل السفريات كي يأتي ليدردش معه قبل أن يبدأ يومه في العمل. نقتنص تلك الممارسات قبالة درج البرجاوي في الناصرة، حيث يجلس الرجال بلا مبالاة على شرفاتهم المطلة على الدرج، وحيث تجتمع النساء لشرب القهوة بعد الظهر عند مداخل بناياتهن، وحيث نرى العاملات المهاجرات اللواتي يسكنّ على امتداد الدرج وهن يقطفن البامية التي زرعنها في حوض قريب لتحضير العشاء. نلاحظ تلك الممارسات في ظل شجرة التين الكبيرة ذات الخمسين عامًا في مار مخايل، حيث يقضي سائقو التاكسي أوقاتهم ويلعبون الطاولة خلال الاستراحة من العمل.

هذه الممارسات الاجتماعية-المكانية متجذّرة بعمق في تاريخ بيروت المديني، ويمكن اختبارها في الشوارع والأسواق والعديد من الأماكن المفتوحة العامة والخاصة والتي قد تكون مخفية بشكل أو آخر، مثل الأزقة، والأدراج التاريخية، ومداخل المباني، والأراضي الشاغرة، وغيرها من المواقع المعتمدة.

  • ١تم إنشاء هذه الخريطة من (١) قائمة المنتزهات والحدائق التي تم الحصول عليها من مجلس الإنماء والإعمار، (٢) قائمة بقطع الأراضي التي يملكها القطاع العام منذ ٢٠٠٤ (بما فيها قطع الأراضي التي تمتلكها البلدية والمؤسسات الرسمية) تم الحصول عليها من URBI، (٣) قائمة تعود لعام ٢٠١٨ بقطع الأراضي المملوكة من البلدية تم الحصول عليها من بلدية بيروت، و(٤) بيانات مبنية BBED. لا تزال المعلومات الظاهرة على الخريطة بحاجة إلى تدقيق عن طريق العمل الميداني.
الشكل ١

الشكل ١: قطع الأراضي المملوكة من القطاع العام والأماكن المفتوحة التي يستخدمها الناس في بلدية بيروت

  • coastal space
    أماكن الترفيه على الشاطئ
  • seaside park
    منتزه الواجهة البحرية المخطط له
  • parks
    منتزه / حديقة (٢١)
  • vacant
    فارغة (٩٣٢)
  • built
    مبنية (١٣٦)
المصدر: مختبر المدن بيروت، ٢٠٢٠ 

إن الممارسات الاجتماعية-المكانية مهمة بصفتها مواقع للتآلف والتفاعل الاجتماعي، حيث يلعب الأطفال بأمان، ويجتمع المسنون، وتلتقي النساء للأحاديث، وحيث يقضي المهاجرون واللاجئون وغيرهم من المجموعات المهمشة أوقاتهم ويُنشئون مجتمعاتهم. تنمّي هذه الممارسات لما يسميه بعض الكتاب "مواطنة مدينية"، وهي حس بالانتماء المديني الشامل، حيث "يشمل الحق بالمدينة كل السكان، بصرف النظر عن الأصول أو الهوية أو شرعية الحضور". على الرغم من كون هذه الأمثلة في غالب الأوقات مؤشرات إيجابية على حياة عامة قيّمة، علينا ألا ننظر للمارسات الاجتماعية-المكانية من منظور رومنسي، إذ أنها قد تحمل أشكالًا من الإقصاء تجاه النساء، والمهاجرين واللاجئين، خاصة في سياق الأنظمة المؤسساتية القائمة على السلطة الأبوية، والمعيارية الغيرية، والتمييزية، كما في لبنان.

إن الممارسات الاجتماعية-المكانية مهمة بصفتها مواقع للتآلف والتفاعل الاجتماعي، حيث يلعب الأطفال بأمان، ويجتمع المسنون، وتلتقي النساء للأحاديث، وحيث يقضي المهاجرون واللاجئون وغيرهم من المجموعات المهمشة أوقاتهم ويُنشئون مجتمعاتهم.
مثلما ذكرنا سابقًا، كانت الممارسات الاجتماعية-المكانية قبل الانفجار في المدينة تتآكل ببطء لأسباب متقاطعة عديدة، منها الأموَلة والنزعات السكنية التجددية. على سبيل المثال، يواجه حي مار مخايل التاريخي تغييرات مدينية جذرية منذ العقد الماضي على حساب التجارب المكانية اليومية النابضة بالحياة. أصبح الحي بالفعل مركزًا يخص "الطبقة الإبداعية" ومقصدًا للترفيه والحياة الليلية يستقطب السياح المحليين والعالميين، والكثير من المقيمين الأجانب الباحثين عن أسلوب الحياة النابض في هذا الحي. أدت هذه التغييرات إلى التهجير التدريجي للكثير من سكان الحي وانحسار الروابط الاجتماعية-المكانية. أصبح السكان القدامى الذين عاشوا وعملوا في مار مخايل هم الاستثناء لا الأساس، وحلت محلهم فئة اجتماعية جديدة من السكان الذين جلبوا معهم ممارسات مكانية جديدة للمنطقة، وخاصة لشارع أرمينيا ليلاً.

أثّر الانفجار بشكل حاد على غالبية هذه الممارسات التي تُعتبر من المظاهر التي تميز معظم أحياء مار مخايل، والجميزة، والجعيتاوي، والكرنتينا. لكن لاحظنا خلال زياراتنا الميدانية أن بعض هذه الممارسات قد عاودت الظهور لتؤكد على قوة الصلات الاجتماعية-المكانية التي تربط الناس بأحيائهم. في الكرنتينا، على سبيل المثال، وضع السكان بين ركام البيوت المدمرة كراسٍ وجلسوا سويًا في الممرات وعلى الأرصفة، فيما لعب الأولاد كرة القدم بعيدًا عن الشارع الرئيسي. في الجعيتاوي، استحوذت مجموعة من سكان الحي اسمها Nation Station على محطة محروقات مهجورة، وحولتها إلى مركز لها، حيث يقدم الشابات والشبان المساعدات المجانية، والأكل، والإغاثة لكل السكان، على اختلاف جنسياتهم وأعراقهم. في الجزء الغربي من مار مخايل، يجتمع عدة رجال مسنين باستمرار في محل أجهزة كهربائية يملكه أحدهم، رغم تضرره من  الانفجار، ويتفقدون أحوال بعضهم البعض ويتذكرون أيام الماضي. ينتقل هؤلاء الرجال للجلوس خارجًا على الرصيف عند اشتداد الحر في الداخل. في الجوار، اجتمعت نساء بالقرب من محل بقالة تديره إحداهن، كما لاحظنا أناسًا آخرين يشربون القهوة أو الشاي على شرفاتهم، ويرحبون بودّ بالمارة الذين ينتبهون لهم قائلين "بونجور!" ثم يتابعون بتأنٍ جلبة المتطوعين في الشارع الذين يقدمون أعمال الإغاثة. إلا أن اللقاء المميز كان مع إيلي، وهو رجل في منتصف العمر يسكن في مبنى قديم في شارع فرعون. قام إيلي بتربية بضع الدجاجات على قطعة الأرض الشاغرة خلف مبناه. كان مشهد الدجاجات وهي تتنقل بين ركام البيوت غريبًا، إلا أنه خلق شعورًا بتجاوز المحنة وبالسكينة وعودة الأمور إلى شبه طبيعتها.

إن الممارسات الاجتماعية-المكانية عنصر أساسي في الحياة العامة النشطة القادرة على جمع السكان معًا وتعزيز معيشتهم المشتركة، وتمهيد الطريق لشعور مشترك بالتكاتف. لا بد من رصد الممارسات الاجتماعية القائمة حاليًا وتوثيقها وحمايتها لكي تستمر، كما يجب البحث عن الممارسات الاجتماعية-المكانية الزائلة أو القديمة وإنعاشها واستعادتها. بإمكان أخصائيي التخطيط المديني، من خلال شراكة وثيقة مع سكان ومحبي المدن، أن يلعبوا دورًا هامًا في تنظيم الاستعادة والاحتفاء بالمواقع التي تبرز فيها الممارسات الاجتماعية-المكانية، بالتعاون مع  أطراف معنية من القطاعيّن العام والخاص.

بهدف استعادة هذه الممارسات الاجتماعية-المكانية، يجب على السكان المحليين - ممن يقومون بها ويمارسونها - أن يصمدوا في أماكنهم، وبالأخص الفئات الأكثر هشاشةً بينهم. من أجل تحقيق هذه الغاية، علينا معالجة العوائق المؤسساتية والقانونية التي تهدد باقتلاعهم وتهجيرهم، خاصةً بما يتعلّق بنوعية ملكية العقارات.
بهدف استعادة هذه الممارسات الاجتماعية-المكانية، يجب على السكان المحليين - ممن يقومون بها ويمارسونها - أن يصمدوا في أماكنهم، وبالأخص الفئات الأكثر هشاشةً بينهم. من أجل تحقيق هذه الغاية، علينا معالجة العوائق المؤسساتية والقانونية التي تهدد باقتلاعهم وتهجيرهم، خاصةً بما يتعلّق بنوعية ملكية العقارات (على سبيل المثال: هل عقد إيجارهم قديم أو جديد؟ بأي عملة يُدفع الإيجار؟ ما دور المالكين في أعمال الترميم ؟). يتعين علينا بعد ذلك أن نضع ضمن أولوياتنا استراتيجية مدنية تشاركية، تسعى إلى إعادة تنشيط الممارسات الاجتماعية-المكانية في الأحياء، وهي الأماكن التي تلعب دورًا في جمع الناس، مثل حديقة صغيرة، أو زاوية في الشارع، أو محل صغير، أو مدخل بناية، أو قسم من درج، وغيرها. تلعب مثل هذه المواقع دورًا رئيسيًا في السماح للممارسات الاجتماعية-المكانية بالانتشار وحتى الازدهار، بالاعتماد على تشكيلة من الظروف الاجتماعية-الاقتصادية. لذلك يتوجب على الدراسات والمشاريع المدينية أن تبحث في كيفية دعم هذه المراكز وتعزيزها، لتنمية المساحات  المشتركة والحياة العامة.

قمنا في مختبر المدن بيروت بإحصاء عدد العقارات  الشاغرة وغير القابلة للبناء في أنحاء بلدية بيروت: هي عقارات صغيرة لا تصلح للبناء لأنها إما صغيرة جدًا أو ذات أشكال غير ملائمة لا تلبي متطلبات قانون البناء. رصدنا ١٦٤٠ عقار شاغر غير قابل للبناء (٨٠٪ منها ملكية خاصة) ولا يزال العمل الميداني قائمًا للتحقق من شغورها، كما رصدنا ١٠٤٥ عقار من الملك العام، ٨٠٪ منها شاغرة (الشكل ٢).٢

  • ٢تم تقسيم قطع الأراضي بناء على الحد الأدنى من المساحة الصالحة للبناء المسموح بها لكل منطقة وفقًا للوائح التقسيم. تم استخدام الصور الجوية للتحقق من كون الأراضي مبنية أم فارغة. هنالك حاجة مستمرة للعمل الميداني للتحقق من كون هذه القطع فارغة بالفعل. مساحات القطع مبالغ بها بشكل بسيط بهدف جعلها مقروءة.
الشكل ٢

الشكل ٢: قطع الأراضي الفارغة وغير الصالحة للبناء

  • Purple
    خاصة (١١٤٨)
  • built
    عامة (٤٩٢)
المصدر: مختبر المدن بيروت، ٢٠٢٠ 

نسعى مع السكان والأشخاص المعنيين إلى بلورة تصوّر مشترك لكيفية استعادة هذه العقارات العائدة للملك العام وغير القابلة للبناء، بهدف استخدامها للمصلحة العامة، ودمجها في الحياة المجتمعية والخدمات المدنية التي تشتد الحاجة إليها، خاصةً في هذه الأوقات العصيبة وخلال الأزمة المتعددة الأوجه. قد تساهم هذه الأنشطة في جمع السكان للتعافي ولإعادة بناء الأحياء تشاركيًا، وربط المساحات بين بعضها البعض. يمكننا من خلال البدء بهذه التدخلات على مستوى الأحياء الصغيرة أن ننتقل إلى المطالبة باستراتيجيات حضرية على نطاق المدينة، والتي سبق أن استثمرت فيها بلدية بيروت، وهي تشمل المخطط الأخضر ومشروع النقل السلس، وهي مشاريع تطرح القيمة الاجتماعية للأرض كمبدأ رئيسي  في وضع السياسات المدينية للعاصمة.

تم تمويل هذا البحث جزئيًا من قبل مجلس البحوث الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت. الآراء الواردة في هذا المقال ثمثل مؤلفيها ومحاوريها.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.