Main Content
متظاهرون يرتاحون قرب رسم يظهر فيه مشنوقا شخصا يمثّل السلطة. وسط بيروت، لبنان. ١٥ كانون الأول ٢٠١٩. (ريتا قبلان، مصدر عام)

متظاهرون يرتاحون قرب رسم يظهر فيه مشنوقا شخصا يمثّل السلطة. وسط بيروت، لبنان. ١٥ كانون الأول ٢٠١٩. (ريتا قبلان، مصدر عام)

الأوليغارشية على النمط اللبناني (٢\٢)

اليوم ١١٢: الأربعاء ٥ شباط ٢٠٢٠ 

مما لا شك فيه أنه لا يوجد نقص في عدد الاوليغارشيين في لبنان. فرغم صعوبة الاحتكام بمقاييس دقيقة لتوزيع الثروة، إذ ان الأثرياء يجيدون اخفاء ثرواتهم، يمكننا الاعتماد وكدليل أولي على بعض الأرقام. ان بيانات ضريبة الدخل بين عاميّ ٢٠٠٥ و٢٠١٤ تظهر أن أغنى نسبة من السكان، البالغة ٠,١ في المئة من المجموع، أي ٣٧٠٠ شخص تقريبا، يكسبون بقدر ما تكسب نسبة الخمسين في المئة الأدنى دخلا، والبالغ عددهم حوالي مليوني شخص. ولقد أظهرت بيانات الإيداع في المصارف لعام ٢٠١٧ أن نسبة ١ في المئة من كل حسابات الإيداع تساوي نصف جميع الأموال المودعة في النظام المالي. 

قام أوليغارشيو لبنان، وفي دفاعهم عن الطبقية هذه، بتأسيس نسخة معاصرة عن الأوليغارشية الحاكمة الكلاسيكية (راجعوا الجزء الأول للأشكال المختلفة من الأوليغارشية).

 بدايةَ، فإن أوليغارشيو لبنان منخرطون مباشرة في أدوات القمع من أجل حماية ثرواتهم، فهم يعتمدون على الميلشيات والاجهزة الأمنية الخاصة وعلى حراسهم لردع المتظاهرين المطالبين بالمساواة، عن منازلهم وعقاراتهم المسيّجة والأملاك العامة المنهوبة، إضافة لقطع الطرقات وإغلاق الأماكن العامة متى رغبوا. ويستخدم أوليغارشيو لبنان أجهزة الدولة نفسها، بالتنسيق والتواطؤ بين بعضهم البعض. وكذلك يمكنهم الاعتماد على التحالف مع قوة عسكرية من خارج إطار الدولة، يكون قائدها بحد ذاته غير أوليغارشي. 

كما أن ينتمي لبنان الى نموذج الأوليغارشية الحاكمة لأن العديد من الأوليغارشيين يمارسون السلطة مباشرة. فالمناصب السياسية في لبنان مليئة بالأوليغارشيين، إذ ان ثمان عائلات سياسية تسيطر على ٣٢ % من أصول القطاع المصرفي التجاري، أي على أكثر من ٧ مليارات دولار. و كمعظم نظرائهم حول العالم، فإن الأوليغارشيين اللبنانيين يخوضون الانتخابات لكي يحكموا مباشرة. ومن أجل بناء كتلة ناخبة تمكنهم من الفوز، يعتمد الأوليغارشيون بشكل أساسي على قدراتهم المادية عبر المحسوبية وشراء الأصوات، وحتى على الوعود بالثراء المستقبلي (بالرغم  من أن بعضهم يملك أشكالا إضافية من القوة الانتخابية كقدرتهم على التجييش). ويعمد الأوليغارشيون عند وصولهم لمناصب سياسية إلى استغلال السلطة السياسية من أجل تعزيز سلطتهم المادية. فالانتخابات اللبنانية، مثلها مثل الانتخابات في أي مكان آخر، لم تؤدي إلى الحد من قوة الاوليغارشيين، بل على العكس من ذلك، هي وسيلة لتحقيق مصالحهم الفردية والجماعية. ولقد أنتجت الانتخابات النيابية العديد من الأوليغارشيين، لأن بعض النخب السياسية وصلت إلى مناصبها عبر هذه الانتخابات، لتستغلّ مناصبها لاحقا كي تدخل عالم الأوليغارشية.  

يعمد الأوليغارشيون عند وصولهم لمناصب سياسية إلى استغلال السلطة السياسية من أجل تعزيز سلطتهم المادية. فالانتخابات اللبنانية، مثلها مثل الانتخابات في أي مكان آخر، لم تؤدي إلى الحد من قوة الاوليغارشيين، بل على العكس من ذلك، هي وسيلة لتحقيق مصالحهم الفردية والجماعية.تطرح الانتفاضة التي انطلقت في ١٧ أكتوبر سؤالين أساسيين عن مصير الأوليغارشية اللبنانية. اولا، هل يمكن للأوليغارشية الحاكمة في لبنان أن تتحول إلى شكل آخر من الأوليغارشية؟ والأهم، هل يمكن أن يتخلّى لبنان عن الأوليغارشية بشكل كامل؟

بالنسبة للسؤال الأول، ونظرا لتنوع المشهد السياسي اللبناني، فإنه من الصعب تصوّر الانتقال إلى نموذج ألاوليغارشية السلطانية، حيث يحتكر فيها قائد أوليغارشي واحد كافة أدوات الإكراه ويستخدمها للدفاع عن احتكار الثروة نيابة عن الاوليغارشيين الآخرين. أما بالنسبة لنموذج الأوليغارشية المتحاربة، فبالرغم من أن تاريخ لبنان مع أمراء الحرب السابقون والحاليون قد يجعلنا نتخيل تحول من هذا النوع، فإن الأوليغارشية اللبنانية الحالية تبرهن عن صبابة وحدتها وبشكل لافت. إذ اننا نشهد في لبنان، وبشكل متزايد، ملامح أكثر أشكال الأوليغارشية استقرارا: الأوليغارشية المدنية. 

حسب كتاب "جيفري وينترز" الصادر عام ٢٠١١ "الأوليغارشية"، فإن أهم تغيّر في طبيعة الأوليغارشية في التاريخ كان انتقال موضع القوة الاكراهية من الفرد إلى الدولة، إذ استغنى الأوليغارشيون عن لعب الدور المباشر في الحكم وفي العنف، لأنهم وثقوا بأن عنف الدولة سيقوم بالدفاع عن ثروتهم نيابة عنهم. ولبنان اليوم ليس على وشك تحوّل سريع من هذا النوع، لكننا نرصد أن جهاز الدولة يُظهر استعداده بشكل متزايد باستخدام العنف ضد متظاهرين يطالبون بالمساواة الاقتصادية والاجتماعية، للدفاع عن توزيع الثروة الطبقي. وفي هذا السياق، فإن الاعتراف بأن عنف الدولة غالبا ما يُوظّف في خدمة الاوليغارشية قد يعطينا الجواب لأولئك المهووسون بضرورة احتكار الدولة للسلاح، كأنه الحل لجميع المشاكل، بما فيها الرأسمالية الوحشية.

وأوليغارشية لبنان تشبه الأوليغارشيات المدنية حول العالم بطريقة أخرى، وهي لجوء الأوليغارشيين إلى المؤسسات البيروقراطية والنظام القضائي للدفاع عن ثرواتهم، عبر السياسات الرجعية للإنفاق والنظام الضريبي وخدمة الدين التي تؤدي إلى ترسيخ عدم المساواة. كما أنهم "يستثمرون" في الأعمال الخيرية ومبادرات "المسؤولية الاجتماعية للشركات" (corporate social responsibility) وأشكال أخرى من إعادة التوزيع الرمزي وغير الإلزامي للثروة، التي لا تؤثر على الطبقية الاقتصادية.  

 ويظهر انتماء لبنان إلى التوجه العالمي للأوليغارشية المدنية المعاصرة أيضاً من خلال التوظيف المتزايد للثروة في القطاع المالي. وان لبنان، في الواقع، متقدم على هذه الجبهة، إذ تراوحت الأرباح الإجمالية لاكبر ١٤ مصرف منذ عام ٢٠١٥ حوالي ٤،٥ في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بأقل من ١ في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة، و٠،١ في المئة في ألمانيا، و٠،٩ في المئة في الولايات المتحدة. ولقد استفاد الأوليغارشيون في لبنان  من محاباة القطاع المصرفي، الذي قام عبر التاريخ بخدمة مصالح المصرفيين الأوليغارشيين المحليين. وبالرغم من أن الأزمة الحالية العميقة قد تُسبب بعض التوترات لاحقا، الا ان القطاع المصرفي وحتى الآن قد قام بحماية مصالح الأوليغارشية. فان جمعية المصارف، ومنذ أيلول ٢٠١٩، تقوم بفرض سقوف غير شرعية ومؤلمة على السحوبات النقدية لغالبية المواطنين، في حين تسمح للأوليغارشيين بإنقاذ ودائعهم. وان الأرقام الأخيرة تظهر أن ٩٨ في المئة من الودائع (١٥،٣ مليار دولار) التي خرجت من لبنان في عام ٢٠١٩ كان مصدرها ودائع تفوق قيمتها المليون دولاراً، وخرجت ٥،٦ مليارات دولار منها من ١١٢ حسابا فقط، إذ تم تسييل ٤٤ حسابا منها بالكامل.

إن تشكيل حكومة تكنوقراط هو مظهر آخر من ملامح الأوليغارشية المدنية، حيث لا يحتاج الأوليغارشيون إلى الانخراط بالحكم مباشرةً من أجل الدفاع عن ثروتهم، بل يمكنهم بكل بساطة الاستمرار في تحقيق نتائج سياسية واقتصادية لمصلحتهم من خلال تعيين وزراء تكنوقراط مقربين منهم.إن تشكيل حكومة تكنوقراط هو مظهر آخر من ملامح الأوليغارشية المدنية، حيث لا يحتاج الأوليغارشيون إلى الانخراط بالحكم مباشرةً من أجل الدفاع عن ثروتهم، بل يمكنهم بكل بساطة الاستمرار في تحقيق نتائج سياسية واقتصادية لمصلحتهم من خلال تعيين وزراء تكنوقراط مقربين منهم. إن حالة الولايات المتحدة، حيث تعمل مؤسسات بمجملها من التكنوقراط، على حماية الثروات، تخفض من الآمال بأن حكومة تكنوقراط يمكنها أن تكون تقدمية. ففي نسختها "المدنية"، تزدهر الأوليغارشية عندما يفرغ الفضاء السياسي من السياسيين.

أما إذا انتقلنا إلى السؤال الثاني، فهل يمكننا أن نتخيّل مستقبل يتخلى فيه لبنان كليا عن الأوليغارشية؟ وهنا يعتبر البعض أن الأولية هي لقيام نظام سياسي أكثر انفتاحا، يتضمن نظام انتخابي جديد، والمزيد من الحقوق المدنية، والحقّ في الجنسية، وقضاء مستقلّ، وانتخابات نزيهة، وحتى (ولما لا) الوصول إلى إلغاء النظام السياسي الطائفي. فهل يمكن لكل ما سبق أن يؤثر، ولو قليلا، على الطبقية الاقتصادية-الاجتماعية؟

إن نظرة حول العالم تبدد مثل هذه الأوهام. فهذه  النظرة تظهر أن معظم "الديمقراطيات" سيطر عليها الأوليغارشيون (والمقصود الأنظمة التي تعقد انتخابات دورية وحرة، وليس الديمقراطية بالمعنى الأرسطيّ التي ميّزها بوضوح عن الأوليغارشية). وكما يقول "وينترز" والعديد من علماء الاجتماعية من التيار السائد: طالما رضيت الديمقراطيات الانتخابية بالتركّز الشديد للثروة، فلن يكون هناك تناقض جدّي بين الأوليغارشية والديموقراطية. قد يكون باستطاعتنا تحقيق جميع التغييرات الإيجابية الواردة أعلاه، ومع ذلك تبقى حياتنا مقيّدة بشكل خطير من قبل الأوليغارشين. لا تصطدم الأوليغارشية مع الديموقراطية إلا إذا تم توزيع الثروات وتحدت المشاركة الموسعة والحقيقية، الطبقية المادية.

لا تصطدم الأوليغارشية مع الديموقراطية إلا إذا تم توزيع الثروات وتحدت المشاركة الموسعة والحقيقية، الطبقية المادية.لقد أعيد توزيع الثروات مرات عديدة عبر التاريخ، إما نتيجة للحروب أو الاحتلال أو الثورات. ولكن كما يذكّرنا "ونترز"، "لم توزع الثروات ابدا عن طريق السبل الديمقراطية الاجرائية". هذه الحقيقة يجب أن تدفع إلى اعادة حسابات كل من يعتقد أن العدالة الاقتصادية-الاجتماعية يمكن تحقيقها عبر إصلاحات في الديموقراطية الانتخابية، والى الأخذ بعين الاعتبار طموح المتظاهرين الذين يصرّون على أن المساواة الاقتصادية هي الأولوية. ففي النهاية، ما هو الموقف الأقل واقعية: الايمان بأننا سنكون أول من ينجح في التاريخ بإعادة توزيع الثروة عبر الديمقراطية الإجرائية؟ أو أن نعي أننا نعيش في لحظة ثورية، كواحدة من الكثر غيرها عبر التاريخ، التي نجحت في تحقيق العدالة.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.