Main Content
مشهد من الاختناق المروري اليومي على أوتوستراد البوشرية قرب بيروت، صورة غير مؤرّخة. (حسين بيضون، مصدر عام)

مشهد من الاختناق المروري اليومي على أوتوستراد البوشرية قرب بيروت، صورة غير مؤرّخة. (حسين بيضون، مصدر عام)

الطريق الى العدالة في قطاع النقل لا يرسمه التكنوقراط

في اليوم ٥٥: الثلاثاء الواقع في ١٠ كانون الأول

في زمن الثورة هذا، تحوّل عيد الاستقلال في لبنان إلى شيء آخر هذه السنة؛ فبدلا من مظاهر العيد التقليدية قام "عرض مدنيّ" مقام العرض العسكري المعتاد، بطريقة أعاد فيها تأكيد حضور الحياة التشاركية في الفضاء العام. قام المئات من الناشطين والمواطنين بتنظيم "أفواج مدنية" بطريقة تسخر من الرموز العسكرية، لكنها تضم المهنيين والمهنيات والموسيقيين والموسيقيّات والأطباء والأمّهات. أعاد هذا العرض التأكيد على المبادئ التي من المفترض أن الدولة اللبنانية قامت عليها؛ حرية الاجتماع وحرية المعتقد وبشكل أقل ربّما، حرية التنقل.

استُخدمت حرية التنقل كسلاح بكثرة في الفترة الأخيرة، بعد قيام المحتجّين والمحتجّات بقطع الطرقات، مما دفع السلطات إلى محاولة فتحها، مع إدانتها الشديدة لأي تعطيل لحركة المرور. وقيل لنا حينها أن حرية التعبير مكانها الساحات العامة وليس الأوتوسترادات والطرقات التي يستعملها الموظفون والموظّفات والعمال والعاملات للوصول إلى أشغالهم.

كما يعلم جيدا كل الذين على هامش اهتمامات السلطة، إن الفصل بين احتجاجات "جيدة" وأخرى "سيئة" بناءً على تمييز مغرض بين التحركات الرمزية والاحتجاجات المباشرة، هو في نهاية المطاف وسيلة للتهدئة تهدف إلى إسكات الاحتجاجات. 

تساوي حرية التنقل بالفعل امتلاك صوت مسموع. ويعتبر هذا الأمر صحيحًا في أوقات الاحتجاجات الاستثنائية، لكنه صحيح أيضا في الأيام العادية: إن الإجابة على سؤال من هم القادرون على التنقّل وكيف يتنقّلون، هو بمثابة الإجابة على سؤال مَن يملك القوة. هذه الحقيقة واضحة وضوح الشمس لكل من يعيش في ضواحي المدن الرئيسية في لبنان بلا سيارة خاصة، خصوصًا النساء اللواتي تتعرض أجسادهن للتحرّش في العلن، او ممن يستعملون الكراسي المتحركة، مثلًا.

إن النزعة الطائفية للنظام اللبناني هي التي أدّت أحيانًا لبعض المكاسب للركاب الذين يعتمدون يوميًا على النقل العام، مثالًا على ذلك خلق خطوط باص خاصة للمناطق البعيدة استجابة لمنطق الزبائنية اللبناني.

 هذه المقاربة السياسية لحركة التنقّل اليومية تقع في صلب تفكير منظمة "حقوق الركّاب"، وهي واحدة من عشرات المنظمات التي شاركت في العرض المدني يوم ٢٢ تشرين الاول. لقد قمت بتأسيس هذه المبادرة بالاشتراك مع شادي فرج الذي شارك في العرض مع مجموعة "قطار/قطار" (train/train) تحت راية "فوج النقل العام". تعمل المجموعتان معًا منذ بداية ثورة ١٧تشرين على عدة مشاريع مرتبطة بالحقّ بالنقل العام، أحدها كان مسيرة على خطوط سكك الحديد غير المستعملة، بالإضافة الى تدخل إبداعي في عدة أماكن من المدينة، عبارة عن عرض لصور معابر القطارات بشكل يوحي أن أطيافها ما زالت بيننا. استحوذت هذه التدخلات الفنية على مخيلة واهتمام الكثيرين، واتت متناسقة مع الجو العام للاحتجاجات القائمة: عفوية، لكنها تستند إلى سنين من الخبرات، متباهية لكن دافعها الرغبة بتحسّن ملموس في حياة الناس اليومية.

 كمُشاهد تربطني علاقات عميقة بكلتا المبادرتين، لم تفوتني الرمزية المتفائلة التي خلقها العرض المدني. تحارب مبادرة قطار/قطار من أجل استعادة تراث سكك الحديد في لبنان منذ العام ٢٠٠٥ بلا هوادة، في حين وُلدت مبادرة "حقوق الركاب" من مبادرة قاعدية تعنى برسم الخرائط بدأت في صيف ٢٠٠٥، ولم تحصل على الاعتراف الرسمي كجمعية لا تبغي الربح إلا هذه السنة. لقد قمنا بإنتاج أول خريطتين غير رسميتين لشبكات الباص والفانات في بيروت عامي ٢٠١٦ و٢٠١٨. وتتشارك المبادرتين تفانيهما لقضية بدت في كثير من الأحيان ميؤوسا منها؛ فمع المشاكل الكثيرة في لبنان، لم يكن من السهل إقناع الآخرين بالاهتمام بقضية النقل العام بنفس الاندفاع الذي يهتمون به بالقضايا والأزمات الأخرى. لذلك، شكّلت التعبئة حول قضية حرية التنقّل بهذا الشكل عبر تحرّك مثل العرض المدني فرصة "لاحتمالات جديدة من التواصل مع بعضنا البعض"، بما أن الجمعيات غير الحكومية عادة ما تتقوقع في حملات تركز على قضية واحدة فقط.

 لكن، هناك جانب سوداوي من مشهدية ولغة "الأفواج" في العرض المدني، جانب يتّفق تمامًا مع أسوأ أوجه التكنوقراطية، أو ما يسمى حكم الخبراء. أحيانًا، أقول لنفسي ان هذه اللغة الرمزية مجرد اختصار للحقوق المدنية، الأمر الذي لم يكتمل تشكّله بعد، لكنه يقطع جذريا مع نظام الطوائف الذي ورثناه. لكننا في حملة "حقوق الركاب" وكأشخاص يريدون استعمال باصات النقل العام، واعون أيضا لمحدودية سياسات الخبراء.

 ففي نهاية الامر، لم يكن أمراء الحرب او القادة الطائفيين هم الذين وضعوا تفاصيل سياسات النقل العام على مدار العقود الثلاثة الماضية؛ بل الاقتصاديون والمهندسون. ليس النظام السياسي هو من جَرّم وسائل النقل التي كانت موجودة في السابق، على جميع علّاتها، بل حفنة من المنظمات التي تعمل بالتعاون مع الجامعات والشرطة. وعندما نتكلم عن التحسينات القليلة التي قامت بها الدولة في قطاع النقل نكتشف سخرية الاقدار، إذ إن النزعة الطائفية للنظام اللبناني هي التي أدّت أحيانًا لبعض المكاسب للركاب الذين يعتمدون يوميًا على النقل العام، مثالًا على ذلك خلق خطوط باص خاصة للمناطق البعيدة استجابة لمنطق الزبائنية اللبناني. هل تعتبر هكذا وسائل نقل فاسدة؟ وكيف نتقدم الى الأفضل؟

 قد تبدو هذه الأقوال كأنها تحذيرات أو تبريرات، لكن ركاب الباصات ليسوا راضين في بلد، حيث يصرّ الناشطون في قضايا حقوق الناس أنه لا يوجد نظام نقل مشترك، بسبب افتراضهم أن ما هو عام هو حصرا ملكية الدولة، الأمر الذي يجعل المعركة أكثر ضبابية. يبدأ خطر التكنوقراطية بالظهور أكثر عندما ننظر عن كثب الى الاختلاف بالآراء حول البنية التحتية. حتى التلاعب بتعبير مثل "الأفواج"، الذي استخدم في العرض المدني، يمكن أن يصبح أكثر حَرفية عندما يتعلق الأمر بالعدالة في قطاع النقل. فمثلًا، خلال تجربتنا، سمعنا أكثر من ناشط في قضايا الديمقراطية أو خبير نقل، يعبّرون عن رغبتهم برؤية الدولة تفرض نفسها في هذا القطاع ولو عسكريًا.

لقد غيرت ثورة ١٧ تشرين كل شيء. ما كان يبدو في السابق منافسة حول الأولويات أصبح الآن تيّارًا واحدًا، ومن المهم الإبقاء على هذه الروح التضامنية حيّة في كل القطاعات، تحديدًا في قطاع النقل، لكن مع الحفاظ على تواضعنا معرفيّا أيضًا. علينا الاستمرار في العمل على تغيير السياسات على الصعيد العام، بينما نبني علاقات مع الذين يسيّرون الأشكال القائمة من أنظمة النقل العام. هؤلاء عالقون في النظام الطائفي، ومن الممكن دعمهم بطرق تساهم في تفكيك النظام من الداخل. هذا الواقع يمكن رؤيته بشكل مصغّر داخل الباصات التي يقول العديد من مناصري النقل العام أنها غير موجودة.

علينا استهداف المؤسسات التي فشلت بتقديم خدمات فعّالة مثل مجلس الانماء والاعمار ووزارة الأشغال العامة وغيرها، في الوقت ذاته الذي نبني فيه مبادرات مفيدة مع الشبكات غير الرسمية التي ملأت الفراغ الذي خلّفته السلطة.

علينا استهداف المؤسسات التي فشلت بتقديم خدمات فعّالة مثل مجلس الانماء والاعمار ووزارة الأشغال العامة وغيرها، في الوقت ذاته الذي نبني فيه مبادرات مفيدة مع الشبكات غير الرسمية التي ملأت الفراغ الذي خلّفته السلطة. علينا المطالبة بالتجديد بينما نواصل المحاربة من أجل الانتقال من القديم الى الجديد بطريقة تحفظ كرامة الناس.  

لا يعني أي من الذي سبق التخلّي عن النظرة النقدية القاسية للنظام الطائفي ككلّ؛ بل يعني أن المعركة من أجل العدالة المرتبطة بالحق بالتنقّل أكثر تعقيدا مما تبدو للوهلة الأولى، علما أن الخبرات المكتسبة من خلال الممارسة غالبا ما تأتي من خارج أطر المؤهلات المهنية الاحترافية. نأمل في مبادرة "حقوق الركاب" أن نطبق هذه المقاربة على أرض الواقع في الأشهر القادمة بالتعاون مع مجموعات مثل "قطار/قطار" وحركة مناهضة العنصرية والاتحاد اللبناني للمقعدين. إن مستقبل النقل العام المشترك مسؤولية نحملها جميعًا.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.