Main Content
عامل صحي متطوع يعقّم إحدى المباني في راس بيروت. بيروت، لبنان. ٢٠ آذار ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

عامل صحي متطوع يعقّم إحدى المباني في راس بيروت. بيروت، لبنان. ٢٠ آذار ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

 

لبنان: هيمنة الكورونا عبر الإجراءات الحكومية المتضاربة

تابع اللبنانيون في مطلع آب ٢٠٢٠ السجال العلني بين وزير الصحة حمد حسن ووزير الداخلية محمد فهمي. صرح الأول خلال مقابلة على شاشة إل بي سي آي عن إمكانية إقامة الأعراس تحت ظروف خاصة خلال فترة الإقفال العام بسبب فيروس كوفيد-١٩، من خلال "موافقات استثنائية" تقدمها وزارته. ناقض وزير الداخلية زميله في تصريح وسطّر غرامة بحق أحد الحاصلين على استثناء وزير الصحة الذي يمثل "تجاوزًا لصلاحياته". وضح وزير الصحة لاحقًا خلال مقابلة مع تلفزيون الجديد أنه كان يقصد إرشادات الصحة والسلامة التي قامت بها وزارة الصحة خلال اليومين الذين يفصلان فترة الإقفال العام المتقطعة، نافيًا وجود أي استثناء رسمي يمنح للأعراس. يعكس هذا التضارب نهج الدولة اللبنانية في التعامل مع فيروس كوفيد-١٩، خاصة بعد سلسلة إجراءات شبيهة بالإقفال التام، يتم تطبيقها منذ ١٥ آذار وتحت إطار "حالة التعبئة العامة".

لم تكن هذه على الإطلاق المرة الأولى التي يتسبب بها تفاعل الحكومة اللبنانية مع كوفيد-١٩ بحالة ارتباك عام في البلاد. إن المسؤوليات والأحكام المتضاربة، والقرارات أحادية الجانب، وغياب التواصل الواضح والممارسات الوقائية بشكل ملموس، والردود المتأخرة، جميعها مميزات لردود فعل الحكومة تجاه الجائحة منذ تسجيل أول إصابة في شباط.

إن المسؤوليات والأحكام المتضاربة، والقرارات أحادية الجانب، وغياب التواصل الواضح والممارسات الوقائية بشكل ملموس، والردود المتأخرة، جميعها مميزات لردود فعل الحكومة تجاه الجائحة منذ تسجيل أول إصابة في شباط.

سبق أن تفاخرت الحكومة والوزراء بالثناء الذي وصلهم من منظمة الصحة العالمية، وبعض الدول الأوروبية والإعلام الدولي، بسبب قدرتهم على احتواء انتشار كوفيد-١٩ في خضم أزمة اقتصادية طاحنة. تردّد صدى هذا المديح داخلياً بين أوساط المسؤولين والسياسيين، إلا أن واقع الإجراءات على الأرض يكشف حقيقة مغايرة.

بدأت الحكومة تدريجيًا برفع القيود في بداية أيار، إضافة إلى إعادة فتح المطار في ١ تموز. تمثل التفسير الوحيد لهذا القرار برغبة الحكومة في دعم الاقتصاد من خلال السماح للمغتربين بجلب الدولارات إلى البلد فيما بلغ عدد الإصابات المسجلة ١٧١٩، إلا أن هذه الإجراءات المتساهلة أدت إلى زيادة عدد حالات العدوى، إلى أن وصلت الإصابات المسجلة في ٢٧ تموز إلى ٣٨٧٩ حالة.

تجاوبت الحكومة مع هذا الارتفاع عن طريق إعادة فرض الإغلاق الجزئي في كل البلاد من ٣٠ تموز إلى ٣ آب، ثم من ٦ آب إلى ١٠ آب، ويفصل بين فترتي الإقفال يومان. تسبب قرار الحكومة بانتقادات لعدم وجود تحذيرات أو تفسير لاختيار هذه الأيام غير المتتالية، والتي تزامنت مع عيد الأضحى، خلال الأيام الأولى. 

تضاعف عدد الإصابات بشكل غير مسبوق بعيد انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب، فيما كانت المستشفيات تعاني نقصًا في الإمدادات وتعمل ضمن سعة متدنية، مع تضرر العديد من المستشفيات الرئيسية في العاصمة بفعل الانفجار. بلغت سعة غرف العناية المركزة مستوى مؤرقًا وصل إلى ٨٢٪ في تشرين الأول. في منتصف تشرين الثاني، تجاوزت الحالات اليومية الألف حالة. أعلنت الحكومة اللبنانية في ١٠ تشرين الثاني إغلاقًا تامًا ومنع تجول من ١٤ تشرين الثاني إلى نهاية الشهر، مع استثناءات تضم العاملين في القطاع الصحي.

منذ ٩ تشرين الثاني، وصل عدد الحالات ليضم ١٥٠٢ إصابة بين العاملين في القطاع الصحي. أشار مصدر في نقابة الأطباء إلى أن ١٧ من أصل ٣٠٠ طبيب في مستشفى الروم مصابون بالفيروس وتم إدخالهم لوحدة العناية المركزة. اضطر المستشفى، وهو أحد أكبر مشافي العاصمة  بيروت، إلى إغلاق قسم الطوارئ لعجزه عن استقبال واستيعاب المزيد من الحالات.

يتتبّع هذا التحقيق الخط الزمني لسلسلة الإجراءات الحكومية التي شكلت ردود فعل متأخرة غير استباقية ولا وقائية، مما أبرز فشل الحكومة في الالتزام بالإطار القانوني الذي يسمح تطبيقه بتسهيل مساعي الحماية.

الكورنيش خال من المشاة بعد منع استخدامه خلال التعبئة العامة. بيروت، لبنان. ٢٠ آذار ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

الكورنيش خال من المشاة بعد منع استخدامه خلال التعبئة العامة. بيروت، لبنان. ٢٠ آذار ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

 

بداية القصة

في ٢١ شباط ٢٠٢٠، أعلن لبنان عن أول إصابة بفيروس كوفيد-١٩، وكانت لسيدة لبنانية وافدة من إيران. قبل هذا التاريخ، وتحديداً في ٤ شباط، اجتمعت لجنة حكومية متابعة التدابير والإجراءات الوقائية لفيروس كورونا للمرة الأولى بحضور مندوبة من منظمة الصحة العالمية من دون أخذ أي إجراء في هذا الاجتماع.

تم تكليف ممثلي المؤسسات ومنتدبي اللجنة بتطوير خطة طوارئ لمواجهة الأزمة، لكن بحسب تصريح من قبل اللجنة، فقد تم اقتراح آلية رد ومراقبة للطوارئ، إضافة إلى خطة عمل مقترحة، دون الإعلان عن التفاصيل.

فور وصول أول حالة إلى لبنان، أظهرت الحكومة قلة استعدادها، إذ أخفقت باتخاذ قرارات سريعة وفعالة لمنع انتشار الفيروس. يبدو أن الحكومة تعاملت مع الجائحة بصفتها تهديدًا أمنيًا لا صحيًا، فرئيس لجنة المتابعة عسكري لا خبير طبي.

فور وصول أول حالة إلى لبنان، أظهرت الحكومة قلة استعدادها، إذ أخفقت باتخاذ قرارات سريعة وفعّالة لمنع انتشار الفيروس. يبدو أن الحكومة تعاملت مع الجائحة بصفتها تهديدًا أمنيًا لا صحيًا، إذ أن رئيس لجنة المتابعة عسكري، لا خبير طبي.

تمثل أول إجراء حكومي مع وصول أولى الحالات المسجلة إلى الأراضي اللبنانية بمنع تصدير أجهزة أو معدات أو أدوات الحماية الشخصية الطبية الواقية من الأمراض المعدية خارج لبنان. لكن عوضًا عن الشروع في تنفيذ هذه الخطوة كما فعل عدد من البلدان، جاء القرار بعد تصدير كميات ضخمة من الكمامات الطبية من نوع N٩٥  والكمامات الطبية العادية (ما لا يقل عن ٤ ملايين كمامة بحسب ما استطاع معد التحقيق توثيقه والاطلاع عليه من مراسلات متبادلة بين التجار). تم بيع تلك الكمامات بأكثر من ٣٠ ضعفًا من سعر شرائها الأصلي، بحسب تجمع مستوردي المعدات الطبية.

قال أحد الصيادلة في مدينة النبطية الجنوبية - والذي فضّل عدم ذكر اسمه - أن الصيدليات كانت تشتري علبة الكمامات  (٥٠ كمامة) بسعر يتراوح بين دولارين ونصف وثلاثة دولارات ونصف، بينما تباع ٥ كمامات بمبلغ ١٠٠٠ ليرة (أقل من دولار بحسب سعر الصرف الرسمي آنذاك ١٥٠٠ ليرة). بعد الإعلان عن أول حالة كورونا، اختفت الكمامات من الصيدليات، لتعاود الظهور بعد أيام قليلة وقد باعها التجار للصيدليات بمبلغ يتراوح بين ٣٥ ألف ليرة (نحو ٢٣ دولار) خلال المراحل الأولية من الأزمة و٥٥ ألف ليرة لبنانية (نحو ٣٦ دولار) بعد نحو شهرين. تراوح حينها سعر الكمامة للمستهلك بين ٢٠٠٠-٥٠٠٠ ليرة لبنانية (دولار ونصف -٣ دولار)، علماً أن التجار قد طرحوا في الأسواق كمامات مكدسة في مستودعاتهم ومستوردة قبل ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، دون أي تنظيم أو محاسبة من قبل الحكومة، بحسب المصدر نفسه الذي تقاطعت معه تصريحات غيره من  الصيادلة. على الرغم من ارتفاع الأسعار، كانت حواجز قوى الأمن الداخلي على الطرقات تتشدد في تطبيق قانون ارتداء الكمامات وتفرض الغرامات الماليّة على المخالفين.

قررت الحكومة في ١٧ آذار أن تسعى لتخفيض أسعار المعقمات والمطهرات، ولكن بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، أثبتت فحوصات مخبرية أجراها معهد البحوث الصناعية بأن ثلاثة من أصل ١٠ أصناف من معقمات اليدين في الأسواق غير مطابقة للمواصفات.

في ١٩ آذار، وبعدما بلغ عدد الإصابات ١٤٩ حالة، بدء العمل على تحديد المعدات المطلوبة لتلبية احتياجات المستشفيات الحكومية لمدة شهر، إضافة إلى تزويد الطواقم الطبية بمعدات الحماية الشخصية. كما تضمنت هذه المساعي جمع المعلومات حول الأماكن التي يمكن استغلالها كمراكز عزل في مختلف المناطق اللبنانية. حددت وزارة الصحة حينها الخيار المتاحة ضمن المستشفيات الحكومية في البلاد، فيما اعتبرت أفضل المستشفيات الخاصة مجرد خيارات احتياطية من دون أي معلومات عن قدرتها الاستيعابية. 

وجه وزير الداخلية محمد فهمي في ٢٢ آذار تعميماً للمحافظين يتناول التوجيهات العامة حول فيروس كورونا، إلا أن هذه التوجيهات قد طال تأخر تطبيقها، إذ أن الخطة الوطنية للاستجابة لفيروس كورونا قد أعلنت في ١٠ آذار عن وجوب تطبيق هذه الإجراءات بعد الإعلان عن أولى الإصابات التي كانت لا تزال ضمن نطاق جغرافي محدود، إذ أن الإعلان عن أول إصابة قد حصل قبل شهر من إجراءات وزير الداخلية.

عطّار مسنّ يتهيّأ لإغلاق دكانه في سوق الرفاعية قبيل موعد حظر التجوال. طرابلس، لبنان. ٢٢ تشرين الثاني، ٢٠٢٠. (فاطمة فؤاد، مصدر عام)

عطّار مسنّ يتهيّأ لإغلاق دكانه في سوق الرفاعية قبيل موعد حظر التجوال. طرابلس، لبنان. ٢٢ تشرين الثاني، ٢٠٢٠. (فاطمة فؤاد، مصدر عام)

في انتظار التفشي

دعت الخطة الوطنية إلى إجراءات حاسمة بعد المرحلة الثالثة، أي عند وجود عدد محدود من الإصابات المعزولة، إلا أنها قد أُقرّت بعد عدة أسابيع من الإعلان عن أول حالة في لبنان، كما أن الخطة تتضمن إجراءات مفصلة في حال بلوغ "التفشي التام" والمعروف بالمرحلة الرابعة.

في هذه الأثناء، تضاربتْ  أعداد الحالات المسجّلة في كلّ من وزارة الصحة ووحدة إدارة الكوارث الواقعة تحت إشراف مكتب رئيس الحكومة، حيث أحصتْ الأولى ٥٢ حالة والثانية ٥٨ حالة. استمرّ هذا التضارب حتى ١٣ آذار، أي عند وصول لبنان المرحلة الثالثة، أي مرحلة "احتواء المرض".

أبرز التدابير التي تنص عليها الخطة المعدّة لهذه المرحلة هي التالية:

١-  مراقبة الحدود البرية والبحرية والجوية عبر قياس حرارة المسافرين القادمين إلى البلد، وطلب المعلومات حول احتمالية تعرضهم للفيروس.

٢-  قرار مبهم بمنع السفر إلى "الأماكن الموبوءة".

٣-  إجراء الفحوصات المخبرية للأشخاص المشتبه بإصابتهم في مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي.

٤-  تقصّي كل الحالات المخالطة للحالات الإيجابية، وهو إجراء لم تصدر مراسيمٌ أو قرارات خاصة لتنفيذه إلا بعد إعلان التعبئة العامة في ١٥ آذار، أي بفارق ٥ أيام قفزت خلالها أعداد الإصابات من ٥٨ إلى ٩٩ حالة بحسب وزارة الصحة.

٥- الحصول على دعم مؤسسات أخرى، والذي يتضمن مراقبة البلديات للحالات المحجورة، ومراقبة قوى الأمن للمعابر وحركة المسافرين، وتنفيذ وزارة الإعلام لحملات التوعية.
٦-  تقييم قدرة المستشفيات الحكومية على معالجة مرضى كوفيد-١٩ وإعداد المعدات الوقائية والطبية اللازمة.

صدر في ٣٠ آذار تعميم عن وزارة الصحة حول طريقة التعامل مع الجثث المصابة أو المشكوك بإصابتها بالفيروس، ينصّ على "وجوب عدم التعرض لسوائل المتوفى وحسن استعمال الواقيات أثناء تجهيز وتكفين الجثمان، في حال كانت عملية التكفين لا تتطلب تغسيلًا، أما إذا كان التكفين يتطلب تغسيلًا، فيجب وضع رداء عازل يغطي كامل الجسم مع الذراعين ونظارات واقية أو قناع وكمامة وقفازات"

صدر في ٣٠ آذار تعميم عن وزارة الصحة حول طريقة التعامل مع الجثث المصابة أو المشكوك بإصابتها بالفيروس، ينصّ على "وجوب عدم التعرض لسوائل المتوفى وحسن استعمال الواقيات أثناء تجهيز وتكفين الجثمان، في حال كانت عملية التكفين لا تتطلب تغسيلًا، أما إذا كان التكفين يتطلب تغسيلًا، فيجب وضع رداء عازل يغطي كامل الجسم مع الذراعين ونظارات واقية أو قناع وكمامة وقفازات". كذلك يجب "تغليف الجثة في كيس بلاستيكي عازل محكم الإغلاق، يلي ذلك تنظيف الأسطح والمعدات بالماء والصابون لإزالة التلوث من بقايا الدم أو سوائل الجسم، ثم تعقيمها وتطهير المعدات المستخدمة بما فيها سيارة النقل في حال التماس المباشر مع الجثة، على أن ينقل الجثمان من المغسل إلى المقبرة مباشرة". عند دفن الجثة، ينبغي "عدم لمس جثمان الميت واقتصار المراسيم على أفراد العائلة المباشرة والاكتفاء بالتعازي عبر الهاتف أو وسائل التواصل الإجتماعي".

جاء هذا التعميم بعد ٢٠ يوم من إعلان أول حالة وفاة في ١٠ آذار، وعند بلوغ الوفيات المرتبطة بالفيروس إلى ١١ حالة.

امرأة تنتظر سيارة أجرة في شارع الحمرا المغلق. بيروت، لبنان. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٠. (فاطمة فؤاد، مصدر عام)

امرأة تنتظر سيارة أجرة في شارع الحمرا المغلق. بيروت، لبنان. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٠. (فاطمة فؤاد، مصدر عام)

 

حركة المطار ووقف انتقائي للرحلات

في ٢٥ شباط، قرّرتْ الحكومة اللبنانية وقف الرحلات الدينية إلى خارج لبنان وضبط حركة الطيران مع البلدان التي سجلت إصابات مرتفعة، ولكن بذريعة إتاحة عودة اللبنانيين إلى بلدهم، استثنت الحكومة الرحلات القادمة من إيران وإيطاليا، علماً أنها تندرج  في خانة الرحلات الدينية من جهة، وفي لائحة الدول ذات الإصابات المرتفعة من جهة أخرى (٣٠٠ حالة في إيطاليا و١٠٠ إصابة في إيران).

واقتصرت  الإجراءات المتخذة في مطار رفيق الحريري الدولي في التعامل مع الوافدين من هذين البلدين على قياس الحرارة وتعبئة استمارة صحية، تبيّن أنها استمارات خاصة بمرض إيبولا، لكن زُعِمَ  "أنها  تنطبق على فيروس كوفيد-١٩"، حسب ما تم إبلاغ طواقمُ الطائرات. صرح أكثر من ثماني أشخاص أن طواقم بعض الرحلات قد تغاضت عن هذه الاستمارات.

تم إقفال مطار بيروت بشكل كامل بتاريخ ١٨ آذار، أي بعدما سجّلت إيطاليا ٢٨٧١٠ إصابات، و١٠٥١٦ إصابة في إيران.

مُنحَ اللبنانيون في الخارج مهلة للعودة إلى لبنان حتى تاريخ إقفال المطار، وسُمح لهم فور وصولهم بالذهاب مباشرة إلى بيوتهم دون أي اجراءات خاصة أو حجر إلزامي، وبهذا اعتمدت الحكومة على الحجر الذاتي فقط.

واقتصرت  الإجراءات المتخذة في مطار رفيق الحريري الدولي في التعامل مع الوافدين من هذين البلدين على قياس الحرارة وتعبئة استمارة صحية، تبيّن أنها استمارات خاصة بمرض إيبولا، لكن زُعِمَ  "أنها  تنطبق على فيروس كورونا"، حسب ما تم إبلاغ طواقمُ الطائرات. صرح أكثر من ثماني أشخاص أن طواقم بعض الرحلات قد تغاضت عن هذه الاستمارات.
لم يلتزم جميع اللبنانيّين القادمين بالحجر المنزلي بشكل كامل، ونقل أحدهم العدوى إلى أحد العسكريّين العاملين في المحكمة العسكرية. نقل الأخير العدوى إلى ما لا يقلّ عن ١٣ من زملائه، مما يدلّ على إهمال التدابير الوقائية في أماكن العمل، بحسب بيان صدر عن الجيش اللبناني.

كانت الحالات التي سُجّلت في لبنان تعود بغالبيتها إلى قادمين من الخارج. أظهر تقرير صادر في ١١ آذار عن وزارة الصحّة توزيع الإصابات كالتالي: ٣٧% وافدة من الخارج (مصر، المملكة المتحدة، إيران، وسويسرا)، ٥٨% من المخالطين للحالات المثبتة (١٣ من المخالطين لحالة وافدة من مصر، و٥ من المخالطين لحالة وافدة من المملكة المتحدة، و٥ من المخالطين لحالة وافدة من إيران)، و٣ حالات كانت قيد التقصي.

بلغ في ١١ آذار عدد الحالات المثبتة مخبريًا ٦١ حالة، فيما اقتصرت الفحوصات المخبرية على من ظهرت عليهم عوارض المرض أو الوافدين  من دول تفشّى فيها الوباء. 

بلغ معدّل الفحوصات آنذاك حوالي ٧٤ فحصًا يوميًا، تُجرى في مختبر مستشفى رفيق الحريري الحكومي، معتمدة على مبادرة الشخص نفسه للتحقق من إصابته دون أن يُسمح بإجراء فحوصات لمن لا تظهر عليهم العوارض أو لمن لم يخالطوا المصابين. 

بعدما وصل عدد الإصابات في ١٨ نيسان إلى ٦٧٢ حالة و٢١ وفاة، بدأت وزارة الصحة بأخذ عيّنات عشوائيّة من مختلف المناطق لتحديد مرحلة انتشار الوباء واتخاذ الإجراءات اللازمة. أشارت الخطة الوطنية إلى عدم الاستعانة بالمستشفيات الخاصة لاستقبال المرضى إلا بعد تخطي المستشفيات الحكومية قدرتها الاستيعابية، علماً أن المستشفيات الخاصة في لبنان تُعَدّ أكثر جهوزية على الصعيد التقني والبشري من المستشفيات الحكومية الموزّعة على المناطق.

في حين تذرّعت وزارة الصحة بالعجز المالي لتبرير قلة الفحوصات المخبرية التي تجريها لفيروس كورونا، وبالتزامن مع تصريح نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة الذي يقول فيه أنّ  "الزبائن" لن يدخلوا مستشفيات يعلن فيها عن حالات كورونا، قامت الوزارة في ١٦ آذار بتسديد مبلغ ٢٠ مليار ليرة (١٣ مليون دولار وفق سعر الصرف الرسمي وحوالي ٧٫٩ مليون دولار وفق سعر صرف السوق السوداء) من مستحقات المستشفيات الخاصة. أصدر المجلس النيابي في ٢٢ نيسان قانون الاعتماد الإضافي بقيمة ٤٥٠ مليار ليرة (٣٠٠ مليون دولار وفق سعر الصرف الرسمي وحوالي ١٣٧٫٤ مليون دولار وفق سعر صرف السوق السوداء) لهذه المستشفيات.

عناصر من الجيش اللبناني يتجولون في شارع الحمرا خلال التعبئة. بيروت، لبنان. ٢٢ آذار ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

عناصر من الجيش اللبناني يتجولون في شارع الحمرا خلال التعبئة. بيروت، لبنان. ٢٢ آذار ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

التعبئة العامة: إجراءات أمنية لا وقائية

أعلنت وزارة الصحة في ١٥ آذار عن ٩٩ حالة  قبيل إعلان الحكومة رسميًا عن التعبئة العامة في اليوم ذاته.

تعقيباً على إعلان حالة التعبئة العامة، قررت الحكومة إقفال كافة المؤسسات العامة والخاصة، مع استثناء المؤسسات الأمنية والإدارات التي تشغّل مرافق لا يمكن أن يتم إقفالها (كمؤسسات الكهرباء أو المياه أو الضمان الاجتماعي) والمستشفيات والمؤسسات الطبية والصيدليات ومصانع الأغذية وتوابعها (التي تنتج موادًا أولية لهذه المصانع كمصانع الكرتون مثلا) ومحلات بيع المنتجات الغذائية وغيرها من الاستثناءات كوسائل الإعلام. طلبت الحكومة من المواطنين البقاء في منازلهم وعدم الخروج إلا للضرورة.

بدأت وزارة الداخلية في ٢١ آذار بالتشدد في ضبط المخالفات، بعدما شهد ذاك اليوم وحده زيادة ٤٣ حالة عن اليوم السابق بحسب وزارة الصحة. برز يومها أيضًا تناقض أرقام وزارة الصحة مع أرقام وحدة إدارة الكوارث التي سجلت ٦٧ إصابة جديدة من أصل ٢٣٠ حالة.

 يبدو أن الحكومة تعاملت مع الجائحة بصفتها تهديدًا أمنيًا لا صحيًا، إذ أن رئيس لجنة المتابعة عسكري، لا خبير طبي.

في ٢٧ آذار، فُرض  منع التجول بعد الساعة السابعة مساء وحتى الخامسة من صباح اليوم التالي، وعمدت وزارة الداخلية في ٥ نيسان إلى تقسيم السيارات والشاحنات والدراجات النارية وفق نظام مفرد ومجوز، محددّة أيّامًا لسير المركبات بحسب أرقام اللوحات، وقامت بعد هذا التاريخ بتقليص ساعات منع التجول أو زيادتها حسب عدد الحالات المسجلة.

بعد مرور بضعة أيام على بدء جمع العينات العشوائية من المناطق لتحديد مرحلة الوباء، وقبل  ظهور النتائج بشكل كلي أو طلب أيّ إجراء من المصابين، أعلن المجلس الأعلى للدفاع في ٢٤ نيسان عن قرار الفتح التدريجي للبلاد ضمن خطة تمتد لشهرين وعلى خمس مراحل. تم اتخاذ هذه الخطوة على الرغم من تحفّظ وزير الصحة على العودة التدريجية للنشاط "الطبيعي"، إلى أن عادت البلاد إلى الإقفال التام في ١٣ أيار.

بررت الحكومة قرار الفتح التدريجي من خلال قلة عدد الحالات اليومية وعدم تسجيل أي حالة في ٢١ نيسان، معتمدة على استمرار ارتفاع الحالات بالوتيرة نفسها، بما لا يتخطّى قدرة المستشفيات على الاستيعاب ودون الانتشار الواسع للوباء.

إلّا أنّ الإصابات في صفوف الوافدين إلى لبنان ارتفعت كما ذكر أعلاه، وسجّل ٧ أيار ٣٤ حالة كورونا، واحدة فقط لمقيم و٣٤ لوافدين، وبهذا ارتفع عدد الإصابات في صفوف المخالطين للقادمين من الخارج.

عجزت السلطات عن إلزام القادمين بالحجر المنزلي، كما لم تستعن بمراكز الحجر البالغ عددها حينها ٤٦ مركزًا.

حمّلت الحكومة اللبنانيّة مسؤولية هذا الارتفاع بشكل أساسي على المواطنين. هدّد وزير الداخليّة محمد فهمي بالتشدد ورفع قيمة محاضر الضبط من ٥٠ ألف ليرة (٣٣ دولار حسب سعر الصرف الرسمي) إلى ٣ ملايين ليرة (ألفي دولار حسب سعر الصرف الرسمي)، كما توعّد المواطنين بإقفال البلاد كلّياً في حال عدم الالتزام بالإجراءات الطوعية.

في المقابل، لم تترافق هذه الخطوات "العقابية" مع أي إجراءات من شأنها أن تحفّز المواطنين على التزام التعبئة العامة، خاصة أنّ ٤٠٪ من السكان قد يجدون أنفسهم تحت خط الفقر، حسبما أعلن رئيس الحكومة حسان دياب في ٧ آذار.

ولزيادة الطين بلة، ومع استمرار الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد، اقتطعت غالب الشركات والمؤسّسات جزءًا من رواتب موظفيها، وبات العديد منهم  يتقاضى نصف أو ثلث راتب، بينما خسر المياومون دخلهم اليومي شبه كامل، ما أودى بشريحة كبيرة من اللبنانيين إلى العجز عن  تأمين المستلزمات الأساسية من غذاء وسكن، فيما تستمر الأسعار بالارتفاع.

عمالٌ كادحون يستريحون على قارعة طريق الحمرا وينتظرون زبوناَ.  بيروت، لبنان. ٢٢ آذار ٢٠٢٠ (حسين بيضون، مصدر عام)

عمالٌ كادحون يستريحون على قارعة طريق الحمرا وينتظرون زبوناَ.  بيروت، لبنان. ٢٢ آذار ٢٠٢٠ (حسين بيضون، مصدر عام)

وعود باطلة بالتعويضات المادية

قررت الحكومة في ١٧ آذار توزّيع مساعدات اجتماعية للمواطنين الذين تعطلت أعمالهم وفقدوا وسيلة رزقهم، لكن لم يتم إقرار الخطة التي يفترض أنها طارئة إلّا في ٢٦ آذار، حيث تقرّر توزيع حصص غذائية للأسر الأكثر فقرًا، على ألا يبدأ التوزيع قبل ١٥ نيسان، بسبب الآلية المعتمدة. 

لكن بعد إقرار الخطة ببضعة أيّام في ٣١ آذار، غيّرت الحكومة قرارها بما يتعلق بتقديم الحصص الغذائية للأسر الأكثر فقراً، وقررت الموافقة على تقديم مساهمة نقدية بقيمة ٤٠٠ ألف ليرة لبنانية (٢٦٦ دولار حسب سعر الصرف الرسمي وحوالي ١٤٣ دولار حسب سعر صرف السوق السوداء) تُدفع للأسر الأكثر حاجة، وتُوزّع عبر الجيش اللبناني، من دون تحديد أي جدول زمني لتطبيق هذا القرار.

أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية في ١٠ نيسان أن توزيع هذه المساعدات سيبدأ في ١٤ نيسان، لكن عاد وأُجّل التوزيع في اليوم المقرر نفسه، بعدما وجدت قيادة الجيش خلال تدقيقها اللوائحَ، أسماء بين قوائم المستفيدين لا تستحق هذه المساعدات.

باشر الجيش عمليّة توزيع هذه المساعدات في ٢٢ نيسان على أكثر من مرحلة، وذلك بعد مرور أكثر من شهرين على تعطّل أشغال الناس، وبعد تحركات شعبية شهدتها البلاد وقطع الطرق احتجاجًا على تردّي الأوضاع المعيشية المتردية، وتخلل هذه التحركات اشتباكات مع القوى الأمنية وعناصر الجيش اللبناني.

ثم عادت الحكومة وقررت تقديم المساعدات النقدية للأسماء المسجّلة  في برنامج دعم الأسر الأكثر فقرًا التابع لوزارة الشؤون (بعد تنقيح اللوائح)، والمتضرّرين من الألغام، وعوائل طلاب المدارس الرسمية وسائقي السيارات العمومية.

باشر الجيش عمليّة توزيع هذه المساعدات في ٢٢ نيسان على أكثر من مرحلة، وذلك بعد مرور أكثر من شهرين على تعطّل أشغال الناس، وبعد تحركات شعبية شهدتها البلاد وقطع الطرق احتجاجًا على تردّي الأوضاع المعيشية المتردية، وتخلل هذه التحركات اشتباكات مع القوى الأمنية وعناصر الجيش اللبناني.

أعيد فتح البلاد ضمن خطة الفتح التدريجي في ١٨ أيار، بعد إقفال تام استمر لأربعة أيام نتيجة ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا. لم تشهد مرحلة ما بعد الفتح التدريجي أيّ إجراءات مختلفة عن المرحلة السابقة قد تساهم في الحد من انتشار الوباء.

شرطة بلدية بيروت تسيطر على حركة السير بالقرب من الكورنيش. بيروت، لبنان. تشرين الثاني، ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

شرطة بلدية بيروت تسيطر على حركة السير بالقرب من الكورنيش. بيروت، لبنان. تشرين الثاني، ٢٠٢٠. (حسين بيضون، مصدر عام)

الشرطي يقرر "المسافة الآمنة"

إذا اتخذت بعض الوزارات إجراءات ولو كانت متأخرة، بقي بعضها الآخر دون أي إجراءات. على سبيل المثال، لم تحدّد أي من وزارتي الاقتصاد والصحّة التدابير الوقائية داخل المحال التجارية، كالعدد الأقصى المسموح تواجده ضمن مساحة معيّنة. من شأن هذه الإجراءات الواضحة ضمن تعاميم رسمية أن تتخذ صفة الإلزام. كما تُرك تقدير الاكتظاظ في المحال التجارية وتحديد المسافات الآمنة اجتماعيًا لتقدير عنصر الأمن المناوب، من دون تحديد معايير واضحة. 

كذلك لم تستعن السلطات اللبنانية بالقوانين والمراسيم والأنظمة المعمول بها في لبنان، سواء من خلال تطبيق النصوص الموجودة أو استصدار قرارات أو مراسيم شبيهة، بل قررت الدولة مواجهة الفيروس بلا أي مواكبة قانونية وإجراءات إدارية تتخذ صفة الإلزام للمواطنين والإدارات  العامة على حد سواء. 

لم يستخدم وزير الصحة صلاحيته التي منحها له القانون، إذ أن قانون الأمراض المعدية الصادر في العام ١٩٥٧، يعطي لوزارة الصحة صلاحية إصدار مرسوم تعيّن فيه التدابير التي من شأنها أن تحول دون انتشار أي وباء متفشٍّ في البلاد، ويحدد صلاحية كل سلطة أو إدارة من السلطات والإدارات التي يُعهد إليها تنفيذ تلك التدابير، كما ينصّ على كيفية تأليفها واختصاصاتها ويمنحها الصلاحيات اللازمة للتنفيذ إلى أجل معين.

لم يستخدم وزير الصحة صلاحيته التي منحها له القانون، إذ أن قانون الأمراض المعدية الصادر في العام ١٩٥٧، يعطي لوزارة الصحة صلاحية إصدار مرسوم تعيّن فيه التدابير التي من شأنها أن تحول دون انتشار أي وباء متفشٍّ في البلاد، ويحدد صلاحية كل سلطة أو إدارة من السلطات والإدارات التي يُعهد إليها تنفيذ تلك التدابير، كما ينصّ على كيفية تأليفها واختصاصاتها ويمنحها الصلاحيات اللازمة للتنفيذ إلى أجل معين. نص القانون المذكور أنّ نفقات تنفيذ تلك التدابير تدفعها الحكومة وتتحمل البلديات الكبرى ربعها، وذلك بحسب المادة التاسعة من القانون المذكور.

تتيح المادة العاشرة من القانون نفسه لوزارة الصحة فرض "نطاق صحي" على أي مكان موبوء ومنع الدخول إليه الخروج منه وحظر التجمعات فيه.

في وقت تتضاعف فيه أعداد الحالات بوتيرة تتجاوز الألف إصابة، نجد الحكومة الآن عاجزة عن احتواء تفشي فيروس كورونا، كما أنها غير قدرة على معاودة إقفال البلاد بفعل الانهيار الاقتصادي.

خلال كتابة هذه المادة، سجل لبنان حوالي ١٢٣ ألف إصابة، من ضمنها أكثر من ٤٨ ألف حالة مستمرة، و٩٤٧ حالة وفاة جراء فيروس كوفيد-١٩.

إذا استمر الحال على ما هو عليه، قد تتجاوز أعداد الإصابات بفيروس كورونا قدرة المستشفيات الحكومية والخاصة على استيعابها، مما ينبئ بأزمة ستهدّد حياة اللبنانيّين في الفترة المقبلة، فلا بد من تطبيق إرشادات مبنية على العلم، والعمل على بناء شبكات أمان اجتماعية لدعم الأعداد المتزايدة من العائلات الفقيرة.

هذا التحقيق ضمن مجموعة تحقيقات حول جائحة كورونا في العالم العربي. أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج).

بحث وتدقيق وترجمة إضافية من قبل كريم شهيب وكريستينا كفلكنتي ولمى أبو خروب وعمر ذوابه.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.