ذكرياتٌ بحروبٍ كثيرة
قساوة الحرب الحالية على لبنان قد تُنسي البعض أن الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان متكررة وتمتد لسنوات طويلة منذ ١٩٤٧ الى يومنا هذا، ونعلم علم اليقين أنها ليست الأخيرة بعد. لكلّ منّا ذكرياته مع هذه الحروب لكن الذكريات لا تتكرّر كما هي، كل حرب لها أوجاعها وأحداثها وخساراتها. فيما يلي يروي الكاتب محمد ناصر الدين بعض ذكرياته من فترات متباعدة من الحروب المتتالية. هذه المذكّرات هي أجزاء من كتاب سيصدر قريبًا تحت عنوان "الحرب كما رويتها لمهدي".
الشياح، ١٩٨٦1
ما زلت أذكر سحنة الولد السمراء، كان يصر أن يلعب في مركز قلب الهجوم، لامتلاكه أطول ساقين في الحي، ورغم ارتدائه قميص ليتبارسكي لاعب ألمانيا الشهير وقتها، وتسريحة شعره نفسها، وإصراره أن أخواله يعيشون في هامبورج، كان الجميع ينادوه "تيشو"، اسم لاتيني بامتياز، لم يكلّف أحدنا نفسه عناء معرفة دلالة الاسم. أنهى تيشو المباراة على الملعب الرملي ليقف مترددا أمام احتمالين، الأول أن يأخذ الطريق المعتاد الى البيت، خروج من الـ “عودة" أو البستان كما كنا نسميه، مئتا متر يسارًا، ثم مئتا متر غربًا بين المتاريس في الشياح. احتسب تيشو المسافة بتعب قدميه، الاحتمال الثاني أكثر إغراءً؛ قفزة وحيدة عن الحائط، أمتار الشارع الأربعة، مع خطر بسيط: قناص الكتائب من جهة الشرق. تعاقبت أشياء سريعة على رأس الولد، القناص نائم، القناص يحب ليتبارسكي، القناص في إجازة قصيرة يشتري كرة لابنه. تمسكنا بقميص تيشو وهو يتسلق الحائط: دقيقتان وأكون في البيت، "مش رح أبرم البرمة". ثانيتان فقط، طاخ! استقرت الرصاصة في ساق تيشو الطويلة. تيشو لم يمت، صار يجلس على مقاعد الاحتياط، مصرًا أن القناص برازيلي، لاتيني مثل الاسم الذي لازمه كلعنة.
عربصاليم2، ١٩٩٦
قُصف جسر الست زبيدة بين حبوش عربصاليم. لم أكن أفوّت فرصة للذهاب إلى عربصاليم التي صارت بالنسبة إلينا جنة الفردوس بعد أن تهجرنا من سجد قبل عقد من الزمان. كان فتية تلك القرية الطيّبون والأشدّاء يتندرون عليّ، أنا "الفتى البيروتي"، ولا أنسى حين سألني طارق عن جسمي النحيف: ماذا تأكل عند الفطور يا محمد، ليسخر من "ترويقة" اللبنة والجبنة وينصحني بتناول البيض البلدي أو اللحمة المدقوقة ليشتد ساعدي. بدأ القصف يشتد في ذلك اليوم من نيسان، ليطال بيوت الحارة كلها، كانت إسرائيل تجرب تلك الصواريخ "اللوقا" (المائلة) التي تثقب سقف البيت لتخرج من أحد جدرانه. اقترب القصف من بيت جدي لأبي علي وارتفع صوت جدتي العلوية بالصلوات والنوافل. خرجت من البيت حتى أول الحارة وانعطفتُ نحو محل "حسين سليم" للحلاقة عند أول النزلة. وجدت بائعًا للبطيخ عالقًا هناك، أفرغت ما في جيبي من النقود مقابل البطيخات الثلاث الباقية. ساعدني البائع الخائف في حملها حتى سطيحة الدار. رميناها فانفجرت على البلاط كما تنفجر القنابل الانشطارية، مرّغنا وجه بعضنا البعض بها مرحبين بالموت الذي لم يأت في تلك الساعة، وكأن الموت يتهيب المزاح. كانت شمس نيسان ترقبنا من فوق جبل الرفيع وتهزأ بالموت هي الأخر.
مار الياس والحمرا3، أيلول ٢٠٢٤
استفقت على صراخ في منتصف الليل "الله أكبر! الله أكبر!"، كانت امرأة قد تلقت خبرًا من مجموعة على الواتساب أنّ "السيد" حي يُرزق وأنّ كل ما شاهدناه في فيلم الرعب كان تمثيليّة للتمويه فخرجت الى الشرفة بالزغاريد. دار في رأسي كاسيت أوجاع الشيعة الذي يمتد من صوت حسيبة بدير "ترندح" بمآسي الجنوبيين حين يخرج الحسين من جبالهم ويرمي الدبابة بالصاروخ ثم يموت فوق صخور الريحان، إلى أولئك الكيسانية وشاعرهم قيس لُبنى ينتظرون أن يخرج محمد بن الحنفية من جبل رضوى ويسقيهم عسلًا وماء. تذكرت تلك الجلسة في الحمرا مع عباس بيضون ورباب وجميلة ومحمود وهبة وشوقي عبد الأمير حين أخبرنا الأخير أن الحسين بن علي ذهب الى أبي لبنى خاطبًا إياها لقيس حين أصرّ أبوها على رفضه: أحببت الحسين جامعًا رأسين لحبيبين على وسادة كما أحببته موسًدا على الرمل في كربلاء. أنزلُ من بيت "التهجير" باتجاه الحمرا. عند كعب البناية يجلس عاشقان، الجلسة الرومنسية إياها كل يوم. ريثما أفتح البوابة الثقيلة اسمع يغني همسًا لخطيبته: "أنا بعشق البحر زيك يا حبيبي حنون وساعات زيك مجنون"، ثم يسألها: "قولك بحر صور حنون اليوم أو مجنون يا زينب؟". يحضر لها الآيس كريم من الدكان المجاور ويحضنها ثم ينظران إلى البعيد، كما لو يرقبان من على كورنيش صور طائرة ورقية أو غيمة فوق اللسان الصخري عند الناقورة الذي يدخل في فلسطين، لسان وصخر، يا للمفارقة التي تجتمع فيها الرقة والقسوة، فتعبر من فوقه السنونو والصواريخ. كلما أتوغل نزولًا باتجاه الحمرا يتضح المشهد أمامي: بنايات تحضن النازحين في مداخلها وفي مواقف السيارات ويختلط الكلام ببعضه فلا يسمع منه إلا أسماء القرى البعيدة: حاروف، رب ثلاثين، كفرشوبا، ياطر، حبوش، تتراءى أمامي كل البيوت وقد بُقرت بطونها هناك، الأشجار المحروقة، الأرزاق المتروكة، وذلك الوريد الضخم المسدود بالسيارات في المسيرة الهائلة، ثم ينبجّ دفعة واحدة ليوزعها على بيوت لم يألفوها ووسائد لم يحبوها. تذكرت الحسين ووسادَتَيه: وسادة قيس ولبنى ووسادة الرمل حيث يبكي فرسه الميمون، نزلت دمعة من عيني على غلاف الجريدة التي زادني ما كتب عليها حيرة على حيرة: لن (أو أن؟) تكون كربلاء مرتين.