في وحـ(ش)ـة الانتظار
كيف لنا أن نقيس ثقل الوقت؟ ذاك الكبير الصامت الذي تدب خطواته فوق حيواتنا، بطيئة مزمجرة تشتد وطأتها مع كل رمشة وكل التفاتة. هل للوقت حاجبان مقطبان وعينان وشفتان ملتويتان وشامة على الأنف؟ أله وجه نهابه ونحنّ إليه ونسبّه إذا أطال التحديق فينا؟ بأي عينين نراه؟ كيف لنا أن نلمس خشونة ذقنه وأن نصرخ في أذنه اليسرى كلما علا صمته؟
لكنه حاضر أيضًا برفقة هؤلاء. هو اليد التي التمست دفئًا من نار برميل اشتعل دمعًا ودمًا. هو الدراجة التي أثقلها الغياب ولم يرتو صاحبها بعد. هو القطة التي أبت ترك مكانها عند النافذة تراقب رفيقاتها شاخصة العينين. هو جبروت الحجارة والفولاذ والآمال وقد أوشكت أن تنهار ولم تتحرك، فاستحالت مسخًا افترس الخلق والزمن والأعمار والبنيان، ثم تقيأها ردمًا وعتمًا وعطشًا وصقيعًا. هو في العيون التي فارقها النوم منذ انشقت الأرض وأطبقت على أهلها. هو عناق طال في حضرة الموت.
في أعقاب مأساة الزلازل التي ضربت سوريا وتركيا بدءًا من السادس من شباط الماضي، وثق مروان طحطح بعدسته مشاهد من يوميات المنتظرين عند الأنقاض في تركيا. ما بين تباين السواد الحالك والأبيض متعدد الأطياف، اقتنصت عدسة مروان الصمت الذي خيم فوق الأرض المدمرة. لم تغب الخشونة التي ألفناها في صوره، لا بل رافقها حوار يخاطب الحواس كلها، لا البصر فحسب. شممنا فيها عبق سجائر المنتظرين، ولفحنا برد شباط الذي لم يأبه لناس بلا سقوف، وسمعنا صمت الوقت الذي علا لحظة بلحظة.
سبق أن أخبرنا مروان بأن "الأسى يبدأ بانتهاء المعارك، بعد انفجار المرفأ، وبعد حرب تموز ٢٠٠٦"، ولهذا الأسى الحضور الأطغى في الصور التي بين أيدينا. لكن ماذا عمّا غاب خارج هذه الإطارات؟ للصورة وجهان: وجه نراه ونتمحص تضاريسه التي سجلها المصور عبر منظار الكاميرا، ووجه آخر اختبأ خجولًا خارج الإطار، دون أن ينسى أن يُلقي بظله على الأطراف كي لا نجرؤ على نسيانه. تجمع الصورة عبر هذين الوجهين ثنائية الحضور والغياب، ففي حضور القلق غياب الطمأنينة، وفي حضور السماء المفتوحة غياب سقوف انهارت على رؤوس أصحابها، وفي حضور العيون التي لم تنم غياب للأحبة، وفي حضور الأحبة غياب للوحشة، ولو للحظة.
مع الشكر الجزيل لليلى يمّين