Main Content
تركيب صور من مسيرة يوم المرأة في اذار ٢٠٢٠ وملصق في مقهى رواق.

تركيب صور من مسيرة يوم المرأة في اذار ٢٠٢٠ بعدسة حسين بيضون وملصق في مقهى رواق بعدسة غياث أيوب. (مصدر عام)

محاسبة المتحرشين: ماذا وراء حدود التشهير

أمضيت معظم العقد الأخير وأنا أحاول بشكلٍ منهجيّ أن أفهم تجارب النساء مع العنف في لبنان، لا سيما الجنسي منها. قمت بمتابعة الجرائم المرتكبة بحقهنّ والكتابة عنها والبحث فيها. تنبع هذه المساهمة إذًا من شعور قديم بالعجز أمام تتالي الخيبات على مدار السنوات التي كنا نبحث خلالها دون جدوى عن أمانٍ سلُب منّا وعدالةٍ تنصفنا، كما تهدف إلى إعادة النظر بأُطر المحاسبة التي اعتُمدت في حملات فضح المتحرشين في السنوات الخمس الأخيرة، وتلك التي غابت عن حملات البوح، دون أن تليها أي مبادرة جدية للدفع قدمًا بالنقاش حول العدالة والمحاسبة النسوية. أسعى أيضًا من خلال النص الآتي إلى استثارة الحديث عن الممارسات العمليّة المتاحة لمواجهة التحرش والعنف الجنسي، في الأوساط البديلة خصوصًا، وإلى تحريك عجلة المقاربات الساعية إلى إحقاق العدالة النسوية وتفكيك البنى السلطوية القمعية لصالح الفئات الأكثر هشاشة.

أولًا: في إعادة تعريف التحرش

تُعرّف هيئة الأمم المتحدة للمرأة التحرّشَ بكونه "أي تصرفات جنسية غير مرغوب فيها، أو طلبات لخدمات جنسية أو غير ذلك من السلوك اللفظي أو الجسدي ذي الطابع الجنسي". يُعتبر التحرش مصطلحًا فضفاضًا وطيفًا يضمّ أشكالًا عدة من الاهتمام والإيحاءات الجنسية غير مرغوب بها، لفظية كانت أو جسدية، وقد تصل حدّ الاعتداء الجنسي، أي الاتصال أو السلوك الجنسي الذي يقع من دون موافقة الضحية، وغالبًا ما يكون جسديًا.

نتوقّف برهة لإعادة بلورة المفهوم إلى ما هو أبعد من الفعل ذي الغاية والطبيعة الجنسية أو العاطفية. الهدف من إعادة التعريف هنا هو الدعوة إلى مَحورة السلطة – لا الجنس – في نقاش التحرش الجنسي، أي وضع التفاوت بين موقع المُنتَهِك وموقع الضحية في هرمية العلاقات، في مركز التفكير والحديث عن الموضوع. لنتخيّل التحرش وحشًا ببراثن أربعة مثلًا: 

  • البرثن الأول والمؤسس هو التفاوت في موقعي المتحرش وضحيته في هرميّة علاقات السلطة، حيث يستغّل المتحرّش موقعه السلطوي المتفوّق ضدّ الضحيّة (كأن يكون المتحرّش مدرّسًا أو صاحبَ عملٍ أو فردًا من العائلة أكبر سنًا، أو مقدّم خدمة أو شخصية مرموقة في مجالها. بالمقابل، تكون الضحية تلميذه/ته أو موظّفًا/ة أو مستفيدًا/ة من الخدمة التي يقدمها، أو طامحًا/ة لدخول مجال يُعتبر المتحرّش فيه خبيرًا. عادةً ما يتحصّن الأفراد بشبكة علاقات اجتماعية تسمح لهم بتشكيل رأي عام حولهم، وتقديم أنفسهم على أنهم الأكثر مصداقية).
  • البرثن الثاني هو وقوعه على شخص من فئة مهمّشة (كالنساء، أو النساء اللاجئات، أو ذوات الإعاقة أو أفراد مجتمع الميم-عين).
  • الثالث هو صفة الفعل غير المرغوب به الذي يشكّل انتهاكًا لجسد أو كيان أو مساحة المتلقية.
  • أما الأخير فهو أن يكون الفعل على طيف من الممارسات – وألّا يُحصر بممارسة واحدة يحدد وقوعها دون سواها حصول التحرش.

تحاجج الأدبيات أن التحرش يثبّت هرمية علاقات السلطة في المجال العام – الشارع وسوق العمل والمجال السياسي – ومن خلفها منظومة اجتماعية وثقافية تنتج مع مرور الزمن نظامًا كاملًا من هيمنة الرجال على النساء في كافة الميادين.

أثبتت الأدبيات النسوية على مرّ العقود أن التحرش الجنسي هو شكل من أشكال انعدام المساواة بين الجنسين، وأداة للسيطرة الاجتماعية وإقصاء النساء من الحيّز العام. تحاجج الأدبيات أن التحرش يثبّت هرمية علاقات السلطة في المجال العام – الشارع وسوق العمل والمجال السياسي – ومن خلفها منظومة اجتماعية وثقافية تنتج مع مرور الزمن نظامًا كاملًا من هيمنة الرجال على النساء في كافة الميادين. هكذا، تتحوّل الغاية الجنسية بدورها إلى أداة يستخدمها الأكثر سلطةً لإحكام سيطرته وتثبيت النظام الهَرَمي القمعي وحجز موقعه فيه. لذلك، غالبًا ما يكون المتحرش من فئة اجتماعية مُتسلطة – حتى ولو لم يملك المتحرش نفسه صفة تمنحه امتيازات. 

لا تنتهي المعادلة هنا: تضيف المقاربة التقاطعية – التي أرستها منظرّات النسوية السوداء – بُعدًا تحليليًا إضافيًا. يعتبر التقاطعيون أن تلاقي مركّبات سلطوية متعددة في هوية أحدنا، كالعرق أو الطبقة الاجتماعية أو الميل الجنسي أو وضع الإقامة، ينتج موقعًا مختلفًا في هرمية علاقات السلطة، وواقعًا أكثر تعقيدًا، وغالبًا أكثر هشاشة لبعضنا. وعليه، فإن ضحايا التحرش الجنسي غالبًا ما يكنّ من الفئات الأكثر تهميشًا والأقل سلطة وحظوة – ضمن هرم النظام المهيمن – كاللاجئات مثلًا، أو العاملات المهاجرات، أو ذوي/ات الميول الجنسية غير الغيرية.
وبما أن السلطة مركزية في تعريف التحرش الجنسي، وجب الاجتهاد لتحويل مصطلح "الجنسي" من المعنى المتصل بالعلاقة الجنسية إلى مصطلح مرتبط بالجهة التي تتعرض لهذا الانتهاك – أي النساء بشكل خاص، ولربط "الجنسي" بالجنس و/أو الجندر (النوع الاجتماعي) و/أو الميل الجنسي الأقل سلطة وبالتالي الأكثر عرضة للتحرش.

إن ضحايا التحرش الجنسي غالبًا ما يكنّ من الفئات الأكثر تهميشًا والأقل سلطة وحظوة – ضمن هرم النظام المهيمن – كاللاجئات مثلًا، أو العاملات المهاجرات، أو ذوي/ات الميول الجنسية غير الغيرية.

تسمح إعادة التعريف هذه بفهمٍ يتسّق والمظلّة النظرية التي وضعت هذا المصطلح في سياقه. بناءً على هذا التحليل، يصبح ميل المتحرش مثلًا – مثليًا أو مغايرًا – تفصيلًا، وتصبح استنسابية المدير في مكان العمل تحرشًا على أساس الجنس-الجندر، وليس مجرد استغلال للسلطة، حين يكنّ ضحاياه الدائمات نساء موّظفات في رُتَب أدنى منه.

ثانيًا: عن مبادرة متعقب التحرش

في العام ٢٠١٦، شاركتُ مع مجموعة من النسويات في تأسيس مبادرة "متعقب التحرش" الهادفة إلى كسر التطبيع مع التحرش الجنسي في لبنان، قوامها موقع إلكتروني يتيح للناجيات التبليغ المجهول عبره. هدف المتعقّب بدايةً إلى تمكين ضحايا التحرش الجنسي في لبنان، عبر إتاحة أداة تسمح بالتبليغ عمّا تعرّضن له، دون الكشف عن هويتهن/م. شكّل فعل التبليغ – حتى ولو لم يأتِ بنتيجة مباشرة وحسّية وفوّرية – هدفًا بذاته، لأنه يساعد الناجية على التجرد من المسؤولية بالجرم الواقع عليها، والتخلص من الذنب الناتج عن هذا الانتهاك. 

على المدى المتوسط، عمل المتعقب على إتاحة بيانات ومعلومات حول التحرش، تسمح للمعنيات/ين بالضغط على السلطات باقتراحات عمليّة تساهم بجعل المدينة أكثر أمانًا، مثل إنارة الشوارع المحيطة بالجامعات، أو العمل مع نقابات النقل العام. أما الهدف الثالث والأبعد مدى، فهو تحرير موضوع التحرش من محدودية حيّز الناشطات/ين الضيّق إلى الحيّز العام والأوسع، ونقل التعاطي معه من الاستخفاف والاستهزاء إلى التحقيق الجدي والبحث في الحلول.

انطلق المتعقب من فرضيتين، أولها غياب المسؤولية-المحاسبة المجتمعية في الحرب ضد التطبيع مع التحرش الجنسي. أدركنا أن الحلّ لا يكمن في قانون تجريم التحرش الجنسي تسنّه الدولة، فيما تغض إدارات الجامعات الطرف عن التحرش في حُرمها مثلًا، وتمتنع عن وضع آليات لمحاسبة المتحرشين ضمن إداراتها وكوادرها التعليمية. كان إدراكاً فطرياً، أسميناه فرضية، وأردنا التحقق منها من خلال مسار عملنا. لذا، خرجنا بالاستناد إلى التبليغات على الموقع بتوصيات لجهات سبع: وزارة الداخلية، قوى الأمن الداخلي، نقابات واتحادات النقل العام، المجموعات النسوية، المحامون، الإعلام، ونقابة المطاعم والمرافق السياحية. أما الفرضية الثانية، فتتعلق بتعريف التحرش الجنسي، الذي افترضنا أنه ما يزال مبهمًا وفضفاضًا في معظم دوائرنا، وأننا لو سألنا مجموعة متنوّعة من الناس عن تعريف للتحرش، فحتمًا لن نصل إلى تعريف موّحد.

بعد سنتين من انطلاق المبادرة، اتضح أن مصدرَي التبليغات الأساسيين هما وسائل النقل العام والملاهي والمقاهي. وعليه، توّجهنا إلى نقابات النقل العام باقتراحات عمليّة لمواجهة الموضوع، لم تَلقَ التجاوب والجدية المطلوبة. من جهة أخرى، شبّكنا مع مبادرة "بارات آمنة" في الولايات المتحدة التي تعمل على بناء قدرات طواقم الملاهي والبارات والمطاعم للتعاطي مع جرائم العنف الجنسي في السياقات التي تشمل الكحول والمواد المخدرّة. في الوقت ذاته، سعى المتعقب إلى استكشاف وتقييم واقع الملاهي ودرجة معرفة وخبرة طواقمها في هذا المجال، فقام فريق من متطوّعيه باستبيان أكثر من ستّين ملهى ونادٍ ليلي في بيروت وجبل لبنان حول المعارف والممارسات المتعلقة بالتحرش الجنسي، لم تنشر نتائجها نتيجة اندلاع ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩.

وأمام الحملة الواسعة التي فضحت المتحرش والمعتدي المتسلسل مروان حبيب في تشرين الثاني ٢٠١٩، وجد المتعقب نفسه مُلزمًا بملىء الفراغ، ومحاولة تلقف موجة البوح وتحقيق عدالة ما في سياق لحظة ثورية أوحت بإمكانية تسجيل انتصار للنساء في المعركة الطويلة ضد التطبيع مع العنف ومع تواجد المعنفيّن في الأوساط الثورية. شكل المتعقب فريقًا قانونيًا ودعا الناجيات من انتهاكات م. حبيب وسواه من المعتدين المتسلسلين الأقل شهرة، إلى تقديم دعاوى قضائية ضد الجناة. بنى فريق المتعقب دعوى ضد م. حبيب استنادًا إلى قانون العقوبات اللبناني، إلا أن القضية لم تُرفع نتيجة انسحاب صاحبات الشأن بسبب التهويل الذي مارسه حبيب بشبكة علاقاته السياسية وفريقه القانوني.

لدى مراجعة مسار المحاسبة في قضايا متحرشين ومعتدين تمّ فضحهم في السنوات الثلاث الأخيرة في لبنان، يتضح عدم إنتاج مسار محاسبة فعليّ لأي منهم ولا وضع استراتيجية حماية لأي من الناجيات الفاضحات. يمكن تلخيص الأنماط المشتركة المُستخرجة من حملات الفضح خلال السنوات الأخيرة بالآتي:

  • أولًا: إفلات الجناة من العقاب الفعلي وخروجهم من "الفضيحة" بخسائر محدودة. لم يبادر غالبيتهم حتى بالاعتراف بما اقترفوه.
  • ثانيًا: غياب الإجماع على شكل هذا العقاب والمحاسبة المطلوبة لهذه الانتهاكات. وقد أدى فائض البولسة في الفضاء الافتراضي النسوي إلى إسكات إمكانيات النقاش حول الموضوع خارج إطار ذمّ الجاني.
  • ثالثًا: تعاظم موجات المحاسبة الأدائية التي توقفت عند التشهير بالمتحرشين.
  • ورابعًا: اكتفاء دوائر ومؤسسات عمل المتحرشين بالاعتذار أو الاستمهالات الواهية لانتظار تحقيقات لم تُجرَ، أو الصمت والتركيز على نقد أدوات الناجيات بالشكوى والفضح والتوقيت.

ما هو شكل المحاسبة المُراد إذن؟ وهل من محاسبة مثالية تصالح رغبتنا بالانتقام من متحرش متسلسل دمّر حيوات العشرات، وبين قيمنا النسوية التي من المفترض أن تحافظ على حد أدنى من التناسق بين المجتمع الذي نريده من جهة، وأدوات الحساب المتاحة في واقعنا من جهة أخرى؟

النسوية السجنية

في السنوات الخمسين الأخيرة، ازداد اعتماد المنظمّات النسوية حول العالم على سياسات البولسة والسجون، فباتت التدخلات القائمة على العقاب السجني مقاربة مشروعة ومقبولة ومعمّمة لحلّ قضايا العنف الجنسي-الجندري في معظم دول العالم. ففي المملكة المتحدة مثلًا، ارتأت الحكومة أن تمنع التحرش الجنسي عبر زيادة عديد قوى الشرطة بملابس مدنية في محيط الحانات الليلية. ورغم إثبات الربط بين زيادة المراقبة والبولسة، وزيادة تجريم وتهميش الفئات المهمشة أصلًا، يستمرّ صعود شهرة التدابير السجنية. 

لا يمثل تعميق تهميش الفئات المُستضعفة الضرر الوحيد الناتج عن المقاربات السجنية، إذ تشمل أضرارها تمويه جذور أزمة العنف ضد النساء، وإعادة تدوير دور قوى الأمن لتقديمهم كحماة للنساء حتى في الحالات التي تمارس فيها هذه القوى العنف، كما أن هذه التدابير لا تُسفر بالضرورة عن حماية زائدة للمعنَفات، بل قد تُثني النساء عن التبليغ أحيانًا حسب عدد من الدراسات.

ففي الدول التي تتبنى العقوبات القاسية في جرائم العنف الأسري، يُلحظ أن النساء أقل ميلًا واستعدادًا للتبليغ. يردّ ذلك إلى تفضيل النساء مشاركة البيت مع معنّف على الاحتمال المُرعب بإدارة هذا البيت بمفردهن بغياب أي دعم مادي من الدولة، بالإضافة إلى أن حالات عديدة من العنف الجنسي والجندري لا يُبلّغ عنها لوقوعها في سياق علاقات معقدة بين الناجيات/ين أنفسهن/م والمؤسسات الأمنية.

وبمعزل عن التبليغ، فإن نظام العدالة الجنائية يضع النساء والعابرات جنسياً ضمناً، والرجال العابرين والأفراد غير المطابقين للجنس وثنائيي الجنس، في مرمى نيران عنف الدولة وأجهزتها، حتى حين يكونون هم أنفسهم ضحايا عنف الشركاء وأفراد العائلة. وعليه، فإن الحلول السجنية للعدالة والمساواة الجنسية-الجندرية تعزل المسببات الاجتماعية-السياسية، كالفقر والتمييز العرقي والطبقي لمعظم الجرائم، وتتجاهل دور التقاطعية في تعريض فئات واسعة من النساء إلى المزيد من التهميش والعنف.

تفيد تجربتنا في لبنان أن السجون ليست سوى واحات للعنف الجسدي والجنسي والجندري، تفاقم وتشجّع أنماط الذكورة السامة السائدة، وغالبًا ما تدفع بالمعتدين المسجونين إلى ارتكاب المزيد من العنف.

في العام ٢٠٠٧، طوّرت عالمة الاجتماع إليزابيث برنشتين مفهوم "النسوية السجنية" لوصف الجهود النسوية لتجريم العمل في الجنس عبر قوانين وتدابير قاسية. تطور المفهوم مذّاك ليشمل اعتماد المجموعات النسوية على مؤسسات الدولة القمعية والعنيفة – كالسجون وقوى الشرطة ونظام العدالة الجنائية – لمعاقبة مرتكبي العنف الجنسي والجندري. تفيد تجربتنا في لبنان أن السجون ليست سوى واحات للعنف الجسدي والجنسي والجندري، تفاقم وتشجّع أنماط الذكورة السامة السائدة، وغالبًا ما تدفع بالمعتدين المسجونين إلى ارتكاب المزيد من العنف. من هنا، ترسخ المقاربات السجنية في لبنان – كما في الولايات المتحدة – العنف على أساس العرق والطبقة الاجتماعية والجندر ووضع الهجرة-الإقامة، والذي يتعارض جوهريًا مع نظام القيم النسوية بمدارسها كافة.

النسوية الإلغائية للسجون

التدابير السجنية ليست المقاربة الوحيدة التي اعتمدتها واقترحتها النسويات لحلّ قضايا العنف الجنسي والجندري، إذ نشأت مقابلها مدرسة النسوية الإلغائية (للسجون)، ومن رائداتها النسويات أنجيلا ديفيس وروث ويلسون جيلمور وجينا دينت اللاتي اجتهدن في التنظير لمعالجة كل القضايا من منظور العدالة الاجتماعية وليس العدالة الجنائية. يمكن أن نتخيّل التدخلات العملية المستجيبة للعنف في الولايات المتحدة بشكل أساسي، على شكل سلسلة، تقبع عند الطرف الأول تدخلات النسوية السجنية واعتمادها المفرط على أجهزة الدولة العنيفة، وعند الآخر موجة متعاظمة من الاستجابات البديلة للعنف الجنسي والجندري الداعية إلى إلغاء السجون، متأثرة بالنسوية الإلغائية، تقودها مجموعات نسوية وكويرية وجماعات مهاجرة ومن الشعوب غير القوقازية-البيضاء المضطهدة تاريخيًا في الولايات المتحدة، والتي اضطرت نتيجة اضطهادها إلى السعي لإيجاد أطر تحقق العدالة في قضايا العنف المجتمعي، وتقيها عنف الدولة. نشأت هذه الموجة في سياق الحركات الاجتماعية الراديكالية ضد المنظومة المهيمنة في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة.

ظهرت وقتذاك مدارس نقدية للنظام الجنائي العقابي من صلب "كنائس السلام"، وهي جماعات وكنائس مسيحية تعتنق اللاعنف وتدعو إليه، كالمينوناتية والكويكرز، فأفضت إلى ما يسمى "العدالة الترميمية" التي لم تتخلَّ كلّيًا عن السجون، بل ارتكزت إلى وساطة لحل النزاع ورأب الصدع بين المُنتهِك والضحية. ورغم إحداث "العدالة الترميمية" لثورة في فضاء نظام العدالة الجنائي الأميركي، إلا أنه سرعان ما خرج اقتراح استبدالها بما يسمى "العدالة التحويلية"، للتركيز على أهمية تحويل الشروط البنيوية المؤدية إلى العنف. ومع أن مفهوم العدالة التحويلية قد نشأ في إطار "كنائس السلام"، إلا أنه إطار قد تشّكل تشاركيًا ضمن مسار بنته وعملت عليه وأثرت فيه المجموعات المتنوعة التي اعتمدته، وتحديدًا المجموعات النسوية الناشطة في مجال العنف ضد النساء وداخل السجون، والمؤسسات العاملة على إشكالية الاستغلال الجنسي للأطفال. ولعل أهم المؤسسات الرائدة في استخدام إطار المحاسبة التحويلية في قضايا العنف الجنسي في الولايات المتحدة هي مؤسسة "جيل 5" (GenerationFive) التي انطلقت في بداية العام ٢٠٠٠، مرّكزة على قضايا الاستغلال الجنسي للأطفال في ولاية كاليفورنيا الأميركية.

العدالة التحويلية

يمكن تعريف العدالة التحويلية بأنها إطار سياسي للمحاسبة يتخطى المساعي لإلغاء السجون، ليستجيب لمختلف أشكال العنف والاستغلال، وليحقق المحاسبة دون إحداث المزيد من الضرر. أهم ما في هذه المقاربة سعيها إلى تحويل الشروط والعوامل التي تنتج هذا العنف وتسمح به وتشجعه. ومن هنا، يمكن اعتبار العدالة التحويلية نموذجًا للتدخل المجتمعي في قضايا الانتهاكات الجنسية والجندرية، يعمل على أربعة مستويات: سلامة وشفاء الناجية، ومحاسبة وتحويل الجاني أو الجناة، واستجابة البيئة (أو المؤسسة أو الحركة أو الجماعة) ومحاسبتها، وتحوّل الجماعة (أو البيئة أو المؤسسة) والشروط الاجتماعية التي تنتج كافة أشكال الانتهاك والعنف وتشجع على استمراره، وتمهيد الأرضية لعملية تعلّم وشفاء دائمة لهذه الجماعة.

تتخيّل العدالة التحويلية مستقبلًا خاليًا من العنف الذكوري الغيري ومن عنف الدولة وسجونها في الوقت نفسه، فيما تسعى حاضرًا إلى إصلاح أضرار كافة أشكال العنف، البنيوية والشخصية.

ومع أن هذه المقاربة ليست محصورة بالمدارس النسوية ولا نتجت عنها بالضرورة، إلا أنها تلتقي معها في الدعوة الى تخيّل العالم الذي نريد وكيفية التنظيم والتكتل لبنائه، وفي التحفيزّ على بناء مجتمعات أقوى، والوصول إلى العدالة الاقتصادية والعرقية والجندرية. في هذا السياق، تتخيّل العدالة التحويلية مستقبلًا خاليًا من العنف الذكوري الغيري ومن عنف الدولة وسجونها في الوقت نفسه، فيما تسعى حاضرًا إلى إصلاح أضرار كافة أشكال العنف، البنيوية والشخصية. ومن بديهياتها أنها لا تعتمد على الدولة أو أي من أدواتها كالسجون وقوى الأمن، ولا ترسخ العنف من خلال ممارسات عقابية كزيادة الرقابة والبولسة، بل تعزز الممارسات التي تقي من العنف كدعم مسارات الشفاء والسلامة لجميع الأطراف، ومحاسبة الجناة. تتطلب العدالة التحويلية عمليًا وبحدّها الأدنى ثلاثة شروط من المعنفين: القبول باللوم نتيجة الأذى المُرتَكَب، والإرادة والنية بأن يشهدوا على آثار ما ارتكبوه في حياة من آذوا، واعتماد المسؤولية النشطة لإصلاح ما يمكن إصلاحه في حياة ضحاياهم. 

يبدأ مسار العدالة التحويليّة عمليًّا بممارسات أوّلية وهي بناء جماعة حاضنة تأخذ على عاتقها مسؤولية التعاطي مع حوادث العنف الجنسي والجندري، وبناء قدراتها للتعاطي مع هذه الحوادث، ومن بعدها قياس وتقييم درجة اهتمام البيئة الأوسع بمعالجة هذه الانتهاكات، وتحديد فرص التدخل والقدرة عليها.

من الضروري هنا الالتفات إلى نقطتين: الأولى هي مركزية الجماعة والبيئة المحليّة حيث حصل أو يحصل الانتهاك، واعتبار هذه البيئة الموقع الأكثر قابلية لإنجاح مسار العدالة التحويلية لأنه نابع من تحليل محلي لعلاقات السلطة. أما الثانية، فهي محورية المحاسبة في المقاربة التحويلية وتحديدًا الفهم المختلف للمحاسبة الذي تسعى إليه التحويليات/ون، ممن يعتبرون أن التمييز الجنسي أزمة بنيوية اجتماعية، وبالتالي تقع مسؤولية التعاطي معه على الجماعة، وليس الفرد حصرًا. يبدأ مسار العدالة التحويليّة عمليًّا بممارسات أوّلية وهي بناء جماعة حاضنة تأخذ على عاتقها مسؤولية التعاطي مع حوادث العنف الجنسي والجندري، وبناء قدراتها للتعاطي مع هذه الحوادث، ومن بعدها قياس وتقييم درجة اهتمام البيئة الأوسع بمعالجة هذه الانتهاكات، وتحديد فرص التدخل والقدرة عليها.

ويعمل نموذجياً وفق مبادئ نسوية، منها:

  • مركزة الرعاية والحب في خطاب العدالة: غالبًا ما تكون المقاربات النسوية بشكل عام مدفوعة بالحب ورغبة بالتواصل، لذلك تُلحظ مركزية الحب في السعي إلى المحاسبة في سياق العدالة التحويلية. هذا يعني عمليًّا طلب المسائلة أولًا في مساحات حميمة منعزلة عن الجماعة من منطلق الرعاية والحرص على المصلحة المشتركة. وحين لا يُسفر طلب المسائلة على انفراد عن النتيجة المرجوة، تصبح المحاسبة العلنية ضرورة.
  • الابتعاد عن ادعاء النقاء والإقرار بالانتهاك: غالباً ما نرى أنفسنا في الدوائر الناشطية في لبنان – لا سيما الكويرية والنسوية منها – خارج النظم القمعية، فنركن إلى هوياتنا التي نعتبرها صالحة وتقدميّة. إلا أن هذا الاعتقاد سرعان ما يتحوّل إلى محاولة لتجنيب أنفسنا المسؤولية والمحاسبة. تنبع من هنا ضرورة مقاربة المحاسبة من منطلق الإيمان بأننا قد لا نكون دومًا على حق في خياراتنا ومواقفنا وأننا حتمًا، في لحظة ما، تواطأنا مع إحدى البنى القمعية حولنا. من هنا، تقتضي المحاسبة التحويلية، بحدها الأدنى، نوعين من الإقرار: إقرار المعتدين بجرائمهم من جهة، وهو ما لم يقدم عليه سوى واحد من العشرات الذين فُضحوا في الأعوام الأخيرة، وإقرار الجماعة المعنيّة بالانتهاك الواقع في فلكها وتسميته والتعريف به من جهة أخرى. هذا يعني اعتراف المُنتهك بعواقب ممارساته – حتى ولو كانت غير مقصودة – على الضحية والجماعة ومبادرته إلى التعويض عنها.
  • المبادرة إلى المحاسبة كتمرين داخلي، انطلاقًا من فرضية حتمية الخطأ في دوائرنا: من البديهي أن نبادر إلى مأسسة المحاسبة في مؤسساتنا عبر وضع آليات ومسارات للمحاسبة الداخلية عوضًا عن انتظار وقوع الخطأ لمعالجته. تحتّم المقاربة النسوية للمحاسبة على المؤسسات العاملة على العدالة الاجتماعية خاصةً أن تثبّت مبادئ المساءلة والمسؤولية في نظمها الداخلية، وتتمرن على ممارستها. يعني هذا أن تكون في كل من هذه المؤسسات مدوّنات سلوك وآليات للمحاسبة والشكاوى في حالات التحرش الجنسي يضعها فريق المؤسسة بناءً على أساس قيم وأولويات هذه المؤسسة، بحيث تفصّل الإجراءات العقابية لكل انتهاك، ومسار الشكوى، والمسؤول/ة عن تلقيها، والمناط بهم/نّ التحقيق فيها.
  • المحاسبة الجماعية والمجتمعية: تركز المقاربات النسوية للمحاسبة على الجماعة والبنى والمؤسسات. قد لا يتحمل الفرد لوحده مسؤولية انتهاك أو تنمر أو اعتداء، لذا علينا أن نبحث في دور النظم والبنى التي شارك كثر في ترسيخها والتطبيع معها في وقوع هذا الضرر. نادرًا ما نشهد على بيانات تشهر المحاسبة الجماعية، لا سيما في سياق العنف والتحرش في المؤسسات البديلة. وحين يتمّ الاعتراف بالضرر، تقع المسؤولية كاملة على شخص واحد في حين يبقى مجلس الأمناء مثلًا محيّدًا، ولا يُسأل عن دوره في وقوع الضرر، فتحفظ مكانته في المؤسسة والفضاء العام. لذلك، تسعى العدالة التحويلية الى إشراك الأفراد غير المعنيين مباشرة بالانتهاك (أي الأشخاص المحيطون بالاثنين) لتشجيعهنّ/م على محاسبة الجناة والمساهمة في تحويل المؤسسات والبنى داخل المؤسسة المتسامحة مع العنف، والسامحة باستمراره. ومن خلال إشراك هؤلاء، يتمّ تحويل المعتقدات والممارسات السائدة تدريجيًا نحو اتجاه رافض للتطبيع مع العنف يمنع إحداث المزيد من الانتهاكات ويساهم في تحرير الجماعة من نير العنف والاستغلال الناتجَين عن التفاوت في ديناميات السلطة. وفي هذا السياق أيضًا، تحتّم العدالة التحويلية بناء حركات اجتماعية تهدف إلى تحويل الشروط الاجتماعية لمنع المزيد من العنف، وتسائل البُنى العنفية وتواجهها وتحاسبها – وأولها الدولة وأجهزتها – على العنف الذي تمارسه وتشجعه بحق الفئات المهمّشة.
  • تحليل وتفكيك مكامن وعلاقات السلطة التي تفاقم الانتهاكات: يقع تحليل وتفكيك علاقات وديناميات السلطة في صلب أي مشروع نسوي، فمن مبادئ العدالة التحويلية النسوية أن يفهم المعنيون والمعنيات مساهمة نظم القوة وعلاقاتها غير المتوازنة في إيقاع الأذى. ثم يتوجب وضع مسارات وآليات محاسبة، أو تحليل المسارات المتاحة بعدسة السلطة، ليس لضمان حماية الضحايا فحسب، بل للتأكيد على تشاركية مسار المحاسبة وشمله لهواجس الجميع.

في العام ٢٠٢٠، فُضح متحرش متسلسل لممارسته الاعتداء اللفظي والتهميش والتنمر العنيف ضد نساء على مدى العقد الماضي. جميع ضحايا هذا الرجل، وهو مؤسس لعدة جمعيات ويخدم في مجالس إدارتها، كنّ من النساء اللواتي عملن تحت إدارته واللواتي آثرن التستر على عنفه خوفًا منه. ورغم ذلك، بقي الشك بسردياتهن مهيمنًا لأنه مثليّ الميل الجنسي. بادر أعضاء مجلس إدارة جمعيته – على إثر انتشار المنشور الذي فضحه – إلى التحقيق في التهم الموّجهة اليه، مما أدى بالطبع إلى تثبيت براءته والتخفيف من انتهاكاته. واليوم، وبعد مرور أكثر من سنتين، لم يعترف الرجل بما اقترفه، بل بادر إلى تهديد اللواتي فضحنه باللجوء إلى القضاء، بينما يقبع هو في مدينة أوروبية، ويشغل منصبًا يتيح له الوصول إلى ضحاياه. لو كان في مؤسسات هذا الرجل آليات محاسبة تسري على الجميع، لما تمادى في تعدياته. هو وعدد من المعتدين الذين فُضحوا في السنوات الأخيرة انتموا إلى جمعيات معروفة كان واضحًا أنها لم تعتمد المحاسبة داخلها. وعليه، حين ارتكب من في أعلى هرم هذه الجمعيات الأذى، لم تتمكن المؤسسة من محاسبته لغياب الآليات، فباتت محاسبة الفرد المعتدي تساوي محاسبة المؤسسة وتدميرها، وبالتالي ليس فقدان موظفيها مورد رزقهم فحسب، بل اعتماد هذه الحجة لابتزاز النساء اللواتي فضحن الانتهاكات وبالتالي تجريدهن من أدواتهن. 

من هنا، قد تبدأ المنظمات أو المجموعات الناشطة المهتمة بالعدالة التحويلية بالبحث عن أجوبة لأسئلة أساسية، منها: 

  • إلى أي مدى تتواطأ المنظمة مع، أو تقاوم العنف أو الديناميات التعسفية؟ وما هي طرق الاستجابة للعنف خارج الإجراءات القانونية؟
  • ما هي البروتوكولات والسياسات المُعتمدة داخل المنظمة للاستجابة للعنف و/أو الديناميات التعسفية التي يتعرض لها أو يرتكبها الموظفات/ون و/أو الأعضاء، وهل تتوافق مع الالتزامات السياسية للمنظمة؟ وكيف نكّيف مبادئ العدالة التحويلية لتتماشى مع سياسات المنظمة والتزاماتها السياسية؟
  • كيف تستعد المنظمة لتطوير إجراءات وتدخلات للوقاية والاستجابة للعنف والديناميات التعسفية التي قد تنشأ في عملنا داخل المنظمة؟
  • كيف تدعم المنظمة موظفاتها وموظفيها في التعامل مع العنف الذي يعيشونه؟ وما هي المسارات المطلوب دمجها في عمل المنظمة لدعم تحوّل موّظفاتها وموّظفيها على المستوى الشخصي؟
  • كيف تتحدى المنظمة أجهزة الدولة؟ ومتى تستفيد منها؟ ومتى يمكن استخدام القوانين والأنظمة للدفع بالتغيير؟ ومتى يتوجب بناء بدائل عنها؟
  • كيف تدمج المنظمة مبادئ العدالة التحويلية في مساراتها التنظيمية وفي علاقاتها السياسية، وفي حملاتها، وفي دورها في الاستجابة للعنف؟

في ليلة من ليالي ٢٠٠٩، جابت مسيرة نسوية شوارع وأحياء بيروت تحت شعار "استرجاع الليل"، وكانت أول تحرك نسوي أشارك فيه. لا يزال ليل بيروت عصيًّا على الاسترجاع، وكذلك مساحاتها. فالتطبيع مع العنف ضد النساء في هذا البلد – على مختلف مساحاته – لا يزال مُرعبًا. وفيما ننتظر عدالةً ما أو قصاصًا في جريمة من الجرائم التي فقدنا القدرة على إحصائها، نواظب على اجترار الكلام نفسه ورؤية الأنماط نفسها، ونشهد على تواطؤ الأنظمة إياها التي لا تحاسب ولا تعاقب من يقضم مساحات أماننا كل يوم.  

نحاول استرجاع الليل منذ عقود، فيما تُقتل النساء في شوارع البلاد في وضح النهار، وتبقى غرف نومهن أكثر الأماكن خطرًا عليهن. نحاول الوصول إلى مراكز القرار السياسي منذ عقودٍ في هذه البلاد، فيما تبقى ثقتنا بأجهزة حفظ أمننا والقانون معدومة. نحاول المثابرة على الحياة منذ قرونٍ هنا، فيما يستهلكنا القلق كلما غامرنا إلى خارج دوائرنا، هي التي بدورها تخذلنا يوميًا. ليست هذه الدوائر قريبة من أطر المحاسبة الحقيقية، ونادرًا ما يُلحظ فيها نوايا جديّة بدعم مسارات شفائنا والاقتصاص من معنّفينا. لكننا لا نملك ترف الصمت، ولا ترف البقاء أسرى أداءٍ تضامنيٍ غاضب داخل غرف صدى لا نسمع فيها سوى صراخنا. حان الوقت لتحويل كل هذا القمع، ولمسارات محاسبة جدّية للمعتدين تعبد الطريق لها المساحات النسوية البديلة.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.