"في غزة كل شيء مختلف": عيش الماضي في الحاضر
تبحر هذه الصور في حزن المدينة، فقد أهلها، قهرهم ونضالاتهم اليومية خلال الحروب العميقة. طيلة شهور يركضون دون كلل نحو مصير مجهول بقلوب مثقلة. لا ينتهي النزوح في المدينة المغلقة والمتفجرة، تزنّرها القيم النبيلة. ينشدون نجاةً ولو مؤقتة، فإما أعجوبة تؤجل الموت أو يغرقون في نهر دمائهم. تعكس الصور دواخل شخصياتها، ترى ماذا كانوا يفعلون قبل لقاء حتفهم؟ كيف يتابعون تحولات حياتهم ويخوضون فصول الإبادة بينما ينهش شبح الاستعمار أحلامهم الصغيرة الممكنة، ينهشها بضغط دم مرتفع وصمت؟ يختبرون القلوب ومدى مقاومتها، ما عاد الحدس ينذر بشيء بعد أن طالت الإبادة الممنهجة ذاكرة المستقبل، غرّبتهم عن ذاتهم، وضبطت عدد السعرات الحرارية في أجسادهم. غيرت الحرب تأويلاتهم لمعنى الضوء منذ بدء التكوّن إلى العدم.
لقد بذلوا للحياة أسمى أفعال الحب دون أن ينالوا نصيبًا طيبًا منه وما له أن يشفيهم من شدائد التاريخ وهالات العيون. كانوا عطشى، يسترقون الوقت للعيش ولكنّ المستعمر جاثم على صدورهم، ويسكنهم القهر… القلق والقهر، الغضب والقهر. لم يرتاحوا يوماً ولم يتسنى لهم إرخاء نفسهم الثقيل على سرير في حياتهم، توالت النكبات والصدمات في كل مرّة همّوا بالنهوض، وتخطّت فاجعتهم في هذه الإبادة حدود الوصف والإدراك.
يعيشون ماضيهم في حاضرهم بتكامل خارق للعادة والقوانين. في غزة كل شيء مختلف، مرة أخرى في غزة كل شيء مختلف وأبعد من التماهي. استمعوا لقصص أجدادهم بالماضي عن فلسطين الواسعة المبهجة وكيف انتُكِبت، ولم يخيّل لهم أن تصبح هذه القصص واقعًا معاشًا أشد قساوة. قاموا بتوثيق تقطيع لحمهم وحزنهم بكل إتقان ووضوح أمام عالم سيبقى مخطوفًا، وآخر يصمم على إظهار المدينة اليتيمة بأدوار البطولة، غاسلًا يديه من ذنبها، عارفًا إياها عند الموت، رغم أنها لا تنتظره.
هي صور عن أحلامهم وأمنياتهم التي أعدّوها بجوع وعاشوا خيالاتها قبل حدوثها. لقد اخترع الغزيون زمنًا يتّسع لهم على أرض تضيق بهم، وحوّلوا يأسهم لطاقة متجددة بوجه الطغيان والملل. تمنوا لو يصبغون ذكرياتهم بألوان بحر غزة بلا خوف من غد يوضّبون فيه أعمارهم بحقائب مصنوعة من جلودهم. تمنوا ولو تسرح الأمواج عند شاطئ الشيخ عجلين بأحضانهم لا ضجر أيامهم رفقة كوب قهوة أعدّه بائع بسيط، كثير اللعن والإبتسامة.
خلعت الإبادة أرواحهم، هاموا نازحين في القطاع الصغير، ينجون بقلب مبتور صُدفةً، ويحملون غزة التي تعجز الدنيا عن أن تأتي بمثلها وبمثل الأماكن التي سينتظرها الغزيون أبد الدهر، والكثير مما يدمي القلب ويفجر الرأس قهرًا. بنوا النوافذ الواسعة لأيام حاولوا معانقتها مرة واحدة، واختبروا الحياة وهم صائمون عن عيشها. أتعبهم برهان جدارتهم بحياة عادية، لكنهم كانوا خجلى أكثر مما يلزم، فاستمروا بالنزيف.
واقعهم مختلف عن القصة وأقسى من أن يتلذذ المرء بصياغات محنّكة للخبر والتحليل والتنظير مروراً بالصورة البصرية.
من سِلْك بيت حانون لرفح سُرِق منهم الأمل والدار دون استئذان الذاكرة والذكريات، وفي أوقات كهذه يصعب الخروج من الملل والخيمة الساخنة على القلب بغير يد إلهية. ولدوا جميعهم دون أن يخرجوا من الأرحام، ما برحوا عالقين يترقّبون مصيرهم، جواب سؤالهم الضروري: أما آن لنا أن نحيا بلا صفة الملائكة؟ ولكنّها غزة الحبيبة، الإيمان الكبير.
كُتِب النص في ٣٠ حزيران ٢٠٢٤
فلسطين، جنوب قطاع غزة