أملهم يتحول إلى خيبة: كيف تؤثر الأزمة على السوريين في لبنان
اليوم ١٩١: الجمعة ٢٤ نيسان ٢٠٢٠
"مقارنة الإنتفاضة اللبنانية بما رأيناه في سوريا"، يتوقف "ك" ليأخذ مجة من سيجارته، "هو مثل مقارنة ارتفاع مبنى بسرعة القطار ... لكن عندما أراقب ما يحصل في لبنان لا أستطيع إلا أن أشعر بالأمل"، يعاود "ك" فيما الدخان يتسلل من فمه ذات صباح مشرق في بداية كانون الاول، الذي يبدو الآن وكأنه من الماضي البعيد.
عشرون يوماً بعد هذا اللقاء، تلقيت صوراً من "ك" لوجهه ورقبته مغطيتان بالجروح والكدمات، تلتها رسالة يتهدج فيها صوته محاولا التحكم بمشاعره: "كنت أعبر الشارع عندما كادت دراجة نارية أن تصدمني. بدأت بالتجادل مع السائق وفجأة تجمّع حشد حولنا. بدؤوا بإهانتي ثم بضربي. استطعت التخلص منهم والهرب ... لماذا يحصل كل هذا؟"
مثل "ك"، وجد سوريون آخرون في لبنان أملهم يتحول الى خيبة بعد الانتفاضة اللبنانية التي انفجرت في تشرين الاول. للمتأملين منهم، كانت الاحتجاجات استمرارا طبيعيا ورمزيا للصراع من أجل تقرير المصير الذي انفجر بقوّة في المنطقة بأكملها منذ عقدٍ من الزمن. فالأغاني والهتافات التي سُمعت لأول مرة في اعتصامات سوريا سُجّلت من جديد لتستخدم في السياق اللبناني، وظهرت تعابير علنية عن التضامن بين لبنان وإدلب. انطلاقاً من هذا الموقف، دعم بعض السوريون في لبنان الإنتفاضة بقدر المستطاع، عبر مشاركة تجاربهم في السياق السوري أو حتى المشاركة الحذرة في الاحتجاجات. "انتفاضة لبنان جميلة، تذكرني بالأيام الأولى للإنتفاضة في سوريا، وتعطيني أملا في مستقبل سوريا"، قال "ه" خلال الأيام الاولى، وهو بالكاد يخفي ابتسامةً عريضة.
لكن كان آخرون أقل تفاؤلا، فنتيجة لجروح التجربة السورية كانوا يهجسون بإمكانية نشوب عنفٍ على نطاق واسع. "ألم يتعلموا منّا؟ هؤلاء الرجال (الذين في الحكم) لن يتركوا بسلمية، ولا أعتقد أن البنانيون مستعدون للقتال، كما أن الطائفية لا تزال متحكّمة. اذا ما استمرّت الامور على ما هي عليه، سيكون الوضع بمثل السوء الذي كان عليه عندنا"، قال "د". وهذه المخاوف تضاعفت مع وصول مظاهر وطنجية لبنانية إقصائية ومديح العسكر الى الشارع، عاملان دائما ما يُستخدما بعنف ضد السوريين.
عانى السوريون في لبنان من موجات متصاعدة من العدائية خلال السنة الماضية، إما من خلال استفزازات يومية، أو عنف الغوغاء (مثل حزيران الفائت عندما هاجم حوالي خمسون رجلا مخيما للاجئين في سهل البقاع، ما أجبر المئات من اللاجئين على ترك المخيم)، أو من خلال زيادة حالات الترحيل القسري. هذه التطورات تتبع النمط الذي ساد منذ بداية الحرب السورية بازدياد العدائية والتمييز ضد اللاجئين والعمال السوريين في لبنان، الذين يلامون على تردّي الأوضاع الامنية والبنية التحتية المتهالكة والازمة الاقتصادية، بالرغم من كل الدلائل التي تشير الى عكس ذلك.
مع كل أزمة متصاعدة في لبنان، يواجه السوريون، مثلهم مثل اللاجئون الفلسطينيون والعمالة المهاجرة، تحديدا العاملات في الخدمة المنزلية من بلدان إفريقية وآسيوية، قيود متزايدة في حياتهم اليومية بدون القدرة على الاعتراض عليها أو مواجهتها فعليا. تتفاقم هذه التحديات ويتحول القلق إلى سؤالاً وجوديا: إذا تركنا لبنان، فإلى أين؟ "لا أعرف ماذا أفعل بخصوص المستقبل" يقول "ك" خلال محادثتنا في كانون الأول. "لا أستطيع العودة الى سوريا لأنني سأُرغم على الخدمة العسكرية الإلزامية. لا استطيع الذهاب الى أي مكان آخر لأن لا أحد يقبلني لاجئا، ويبدو أن البقاء في لبنان يزداد صعوبةً".
أحد الأمثلة الفاقعة على غياب الفاعلية الذاتية للسوريين القاطنين في لبنان شكلها موت العاملان السوريان ابراهيم يونس وابراهيم حسين، في الليلة الأولى للانتفاضة، حين كانوا ينامون في متجر يعملون فيه في وسط بيروت وقضيا اختناقاً بعدما أضرم المحتجّون النار في المبنى. في الأيام التالية أضاء ناشطون لبنانيون الشموع عن أرواحهم واعتبروهما "شهداء الثورة". بالرغم من أن هذا الفعل جدير بالثناء ويعبّر عن نوايا حسنة، لكنه فعل عابر. فإن موت يونس وحسين حتما لم يحتلّ المكانة ذاتها في الرواية العامة الذي احتلها موت مواطنون لبنانيون خلال المظاهرات. وإحدى الدلالات الإشكالية لهذه المأساة تحديدا هي كيف أنه حتى الافعال حسنة النيّة، مثل اعتبار الضحايا شهداء للثورة، يتمّ بدون مشاركة أهالي الضحيتين في القرار. أما الاهم، فلم يقدم أي تعويض لأهاليهم أو محاسبة أي أحد. طُمرت القضية مثلما طُمرت الجثتين.
مع كل أزمة متصاعدة في لبنان، يواجه السوريون، مثلهم مثل اللاجئون الفلسطينيون والعمالة المهاجرة، تحديدا العاملات في الخدمة المنزلية من بلدان إفريقية وآسيوية، قيود متزايدة في حياتهم اليومية بدون القدرة على الاعتراض عليها أو مواجهتها فعليا.من الطبيعي أن تأثير الأزمات على السوريين في لبنان لا يحصل بشكل متشابه، بسبب الفوارق الطبقية وتأثيرها على مواقفهم من الانتفاضة اللبنانية. رغم عدم وجود دراسات وافية حول الديناميات الطبقية بين السوريون في لبنان، لكنه من الواضح أن الطبقة الوسطى والعليا من المقيمين قادرة أن تتجنب، أو على الاقل أن تتحمل تأثيرات التمييز العنصري، بما أنه يستهدف عامّة الفقراء.
الاستجابة اللبنانية لجائحة "كوفيد-١٩" هي المظهر الأخير لنمط التمييز ضد السوريين، إذ يجمع بين مخاوف الصحة العامة الجديدة وبين السياسات العنصرية المعهودة. كان السوريون في البقاع أول من فُرض عليهم الحظر الإلزامي حتى قبل الإعلان عن حالة التعبئة العامة وطنيا. هذه الاجراءات التمييزية امتدت الى ٢١ بلدية أخرى على الأقل في كل أنحاء البلد، حسب منظمة "هيومان رايتس ووتش".
مثلما تُظهر هذه الازمة الصحية الفشل المستمر للدولة اللبنانية تجاه مواطنيها، تكشف الازمة أيضا النقص الفادح في الموارد والبنية الصحية التحتية المتوفرة لعلاج اللاجئين السوريين والمجتمعات الضعيفة الأخرى مثل اللاجئين الفلسطينيين وعاملات الخدمة المنزلية المهاجرات. فمثلاً، في ٢٢ آذار أعلن الأمن العام اللبناني عن حملة لتطهير وتعقيم ٧٢ مخيما للاجئين السوريين. لكن يلاحظ تقرير لـ"سوريا مباشر" بتاريخ ٨ نيسان نقائص حادة في هذه الحملة: بقيت العديد من المخيمات خارج الحملة؛ التطهير بقي حكرا على أرض المخيمات ولم يشمل داخل الخيم؛ الفحوصات الطبية غير متوفرة في المخيمات؛ وسياسات الحجر الصحي غير مناسبة إطلاقا (التقرير يستشهد بمصدر طبي سوري في عرسال يؤكّد أن الغرفة الوحيدة التي خصصتها بلدية عرسال للحجر الصحي للسوريين ما زالت قيد البناء).
الاستجابة اللبنانية لجائحة "كوفيد-١٩" هي المظهر الأخير لنمط التمييز ضد السوريين، إذ يجمع بين مخاوف الصحة العامة الجديدة وبين السياسات العنصرية المعهودة.تخطط مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة لمحاربة فيروس كورونا عبر "تقوية قدرات القطاع الصحي اللبناني عبر تأمين الادوية وخلق أجنحة إضافية في المستشفيات وإضافة أسرّة جديدة في وحدات العناية الفائقة كي لا تخلق منافسة بين المجتمعات المختلفة في لبنان". كما أعلنت "استعدادها لتغطية نفقات الفحوصات الطبية والعلاج في حال تسجيل إصابات". لكن بالرغم من تطمينات مفوضية اللاجئين من الصعب الشعور بالتفاؤل بسبب سياسة المستشفيات اللبنانية برفض علاج أي أفراد بدون وثائق ثبوتية. وقد حصلت حالة بالفعل منتصف آذار عندما رُفض علاج إمرأة سورية ظهرت عليها عوارض فيروس كوفيد-١٩ من قبل عدة مستشفيات في شمال لبنان، ما أدّى الى وفاتها.
في هذه الاثناء أدت المصائب المتعددة التي يعاني منها لبنان الى إضعاف قدرة المنظمات غير الحكومية على تلبية حاجات اللاجئين السوريين في لبنان. فكما ذكر "مركز التحليل العملاني والأبحاث" منتصف تشرين الثاني: "القيود المفوضية على تحويل الاموال والاغلاق المتكرر للمصارف أدّيا الى تحديات لوجستية ومالية للمتمركزين في لبنان، وتعاني المنظمات من صعوبات حالي في تحويل الأموال داخل لبنان، وتطبيق المشاريع المعتمدة على السيولة النقدية، ودفع الأجور ... انقطاع الدعم المالي النقدي سيكون له تأثير مباشر، ورغم وجود إشارات على تحوّل اللبنانيون الى قطاع العقارات كإستثمار مالي آمن، على الصعيد طويل الأمد، سيزيد سوق السكن مرتفع الاسعار من الأعباء المالية التي يتحملها السوريين، الذين أصبحت حظوظهم الاقتصادية القليلة أساسا في خطر".
نظرا للصراع الكبير الذي يواجهه اللبنانيون أنفسهم للحصول على الحقوق الاساسية الممنوعة عليهم، يصبح التقصير مفهوما فيما يخصّ السوريون في لبنان. الجدير ذكره أن العديد من المنظمات والناشطين والداعمين ما زالوا يحاربون من أجل أسس أكثر انفتاحا للانتفاضة. لكن حتى الآن، ما زال هذا الشق من المعركة غير شائعا. إن تجارب السوريين، مثلهم مثل آخرين غير لبنانيين (تحديدا الفلسطينيين)، وكيف يمكنهم الانخراط في الانتفاضة وكيف تؤثر فيهم سيكون اختبارا حاسما للانتفاضة اللبنانية، وكم ثوريةً يمكنها أن تكون.