Main Content
عاملات منزليات كينيات يقمن اعتصاما مستمراً أمام قنصلية بلدهن في بدارو للمطالبة بالعودة إلى الوطن. بيروت، لبنان ١١ آب، ٢٠٢٠. (محمد شبلاق، مصدر عام)

عاملات منزليات كينيات يقمن اعتصاما مستمراً أمام قنصلية بلدهن في بدارو للمطالبة بالعودة إلى الوطن. بيروت، لبنان ١١ آب، ٢٠٢٠. (محمد شبلاق، مصدر عام)

إصلاح نظام الكفالة ترقيع ليبرالي: العمالة المهاجرة والنضال في سبيل التحرر

في اليوم ٢٩٠: السبت الواقع في ١ آب ٢٠٢٠

في الثاني عشر من أيار الفائت أصدر العمّال المهاجرون الموظفون لدى رامكو، وهي شركة الهندسة والإعمار الخاصة التي تتعاقد معها الحكومة اللبنانية لإدارة النفايات في بيروت وجبل لبنان، بيانا تفصيليا حول المعاملة الرهيبة التي تلقاها أحد العمّال "عناية الله". يستعيد البيان ما حدث في الثامن من نيسان، حينما كان العامل البنغلادشي يعاني من عوارض مرض عقلي مما دفع مديره وأفراد الحرس إلى حبسه في غرفة تحت الأرض وتعذيبه والاعتداء عليه. بعد ثلاثة أيّام جرّه أفراد الأمن إلى غرفة الأكل وحاولوا خنقه إلى درجة أنّه كاد يموت بين أيديهم لولا أن تدخّل العمّال من البنغلادشيين، والهنود المناصرين لهم، الذين سمعوا صراخه فذهبوا لنجدته.

دافعت شركة رامكو عن هذه الأفعال القمعية مستخدمة حجّة أنّ الانهيار المالي يجعلها غير قادرة على دفع فواتير عناية الله الطبية، لكنّها وعدت بدفع ثمن بطاقة العودة إلى وطنه كي يتعافى هناك. بحلول السابع والعشرين من نيسان كان من الواضح أن الشركة قدّ تنكّرت لوعودها، إذ كان "عناية الله" لا يزال في لبنان ويعاني أكثر من أي وقت مضى. بدأ عمّال الشركة في اليوم التالي إضراباً  للتضامن معه، ومن أجل الاعتراض على زيادة عبء العمل إلى حدّ لا يحتمل بعد أن فرضت "رامكو" تخفيض عدد العمال الى أربعين عاملا على مئة شاحنة بدلا من الثلاثمائة الذي يتطلّبهم العمل ذاته عادة، وللمطالبة بدفع أجورهم بالدولار كما ينصّ عقدهم، بدلا من الليرة اللبنانية. وفي الثاني عشر من أيّار قطع العمّال الطرقات المحيطة بالشركة، ومنعوا شاحنات القمامة من مغادرة  مقرّاتها. أرسلت القوات المسلّحة لقمع هذا الإضراب غير المسبوق، لكن لم يكن لدى الشركة بعد ذلك أي خيار سوى التفاوض مع السفارة البنغلاديشية لتجنّب حدوث "أزمة نفايات" جديدة.

لبنان: واحد من الأماكن التي تشهد عنفا مبنيا على العرق

ليس العنف المبني على العرق، أي العنف الذي تعطى له تبريرات عرقية و/أو يحفّزه العرق، استثناء محليّا بل هو أحد المكونات الأساسية للديمقراطيات الليبرالية. لقد رأيت بشكل مباشر كيف أنّ هذا العنف راسخ جدا ضمن الاقتصاد السياسي الإمبريالي منذ تأسيس الاستعمار الاستيطاني في الولايات المتحدة خلال السنوات التكوينية التي قضيتها في منطقة الخليج في سان فرانسيسكو عاملة على بحث الدكتوراه. على سبيل المثال، مارست الدولة في الولايات المتحدة، إلى جانب ميليشيات من البيض، العنف وأشكالا من الإقصاء القانوني الذي هدف إلى تأديب وحكم العمال والعمالات المهاجرين والمهاجرات القادمين والقادمات من الدول اللاتينية والصين والفلبين العاملين والعاملات في مجالات الزراعة والإعمار والذين اعتمدت عليهم وعليهن كاليفورنيا في سبيل تحقيق نموّها السريع. أثناء فترة العبودية كان العنف المبني على العرق ممارسة يوميّة توكّلت بها "دوريّات ضبط العبيد"، والتي تنحدر منها الشرطة الأمريكية. برزت هذه الدوريات في أواخر القرن السابع عشر وكان المنتمون إليها يحملون سياطا ومسدسات يستخدمونها لتأديب المستعبدين الفارين والإمساك بهم ومعاقبتهم.

الرأسمالية المتأخرة، وهي نظام الاقتصاد السياسي المهيمن في زمننا، تعتمد على التراتبيات الاجتماعية المصطنعة التي تبنى عليها العنصرية والأبوية لتعيد إنتاج ذاتها بشكلٍ متواصل.    

أستخدم هذا المثال هنا لأبيّن أن العنف تجاه العمال المهاجرين ممأسس ومبني على العرق، فهذا يتيح لنا أن نرى ما حدث مؤخرا في لبنان في سياق تاريخٍ طويل من العنف العرقيّ تجاه العمال المهاجرين، الذي يهدف جزئيّا إلى  تحقيق منفعة اقتصادية. لا تعود قصة "عناية الله"، إذا ما اطّلعنا عليها من هذا المنظار، قصّةً غريبة،  سواء وضعت في سياق قانون العمالة المهاجرة المبني على "الكفالة" في لبنان والمنطقة، أو مثيله الأفضل قليلا في هونغ كونغ وسنغافورة، أو حالة "المهاجرين غير الموثقين"  الذين يعيشون في الغرب بحالة قلق نتيجة لا شرعية إقامتهم. أنا لا أحاول هنا القول إنّ العمال والعمالات المهاجرين والمهاجرات يعانون من العنف بالشكل والدرجة ذاتهما بغضّ النظر عن السياق والوضع القانوني والهوية. لكن ما أعنيه هو أن الرأسمالية المتأخرة، وهي نظام الاقتصاد السياسي المهيمن في زمننا، تعتمد على التراتبيات الاجتماعية المصطنعة التي تبنى عليها العنصرية والأبوية لتعيد إنتاج ذاتها بشكلٍ متواصل.    

الترحيل في ظلّ النظام الرأسمالي: تاريخ طويل

إنّ حالة عدم الاستقرار التي يعيشها العمّال والعاملات المهاجرين والمهاجرات والأذى الذي يتعرضون ويتعرضن له، والتي يمكن أن تبدو مجرّد حظّ عاثر، لا يمكن في الواقع فصلها عن "منطق الاستبعاد" الذي طبع الرأسمالية المتأخرة منذ ثمانينات القرن الماضي. في هذه المرحلة الأشد توحّشا من الرأسمالية بدأ أصحاب المصالح المالية بالاستيلاء على أراضٍ في الجنوب العالمي لاستخراج الموارد، بدعم من نظام خدمة الدين الذي يديره صندوق النقد الدولي وبتواطؤ من القائمين على الدول التي تشكلت في الجنوب بعد الاستقلال. النتيجة المدمّرة لهذا الشكل من الاقتصاد السياسي العالمي  كانت الطرد الجماعي للسكان الأصليين من الأراضي والاقتصادات التي لطالما اعتمدوا عليها. أصبح هؤلاء بعد طردهم والتخلّي عنهم جزءا من "فائض سكاني" دائم الازدياد وتركوا لمواجهة مصائرهم التي تشمل بؤس الاعتقال، والحبس، والتعامل مع شبكات الاتجار بالبشر، والهجرة للعمل بعيدا عن الوطن.    

النتيجة المدمّرة لهذا الشكل من الاقتصاد السياسي العالمي  كانت الطرد الجماعي للسكان الأصليين من الأراضي والاقتصادات التي لطالما اعتمدوا عليها.

إنّ إنتاج "العمالة الخدمية" في الفلبين التي تؤدي أعمالا من قبيل التمريض والاعتناء بالحدائق والعمل في المنازل ثمّ هجرة هذه العمالة، على سبيل المثال، هي إرث إمبريالي يرتبط مباشرة بالتوسع الأمريكي غرب المحيط الهادئ وما نتج عنه من خسارة للأراضي، وإفقار للمزارعين، وتأنيث للعمل. لقد ساهم اللبنانيون الفارّون من ويلات الاستعمار والحربين العالميتين من دون قصد في تجريد المجتمعات الأصلية في مناطق مختلفة من العالم من أملاكها، ومنذ منتصف القرن العشرين بات لهذه المساهمة تبعات خطيرة في أجزاء من غرب أفريقيا مثلا، بما في ذلك غانا وليبيريا وساحل العاج وخصوصا سيراليون، التي شهدت مولد نبيه برّي الذي يشغل منصب رئيس مجلس النواب في لبنان منذ وقت طويل، حيث سيطرت عائلات لبنانية جنوبية عريقة على تجارة الألماس العالمية متبعة أساليب شرعية تارة ومستخدمة شبكات التهريب تارة أخرى في نطاق جيوسياسي يحتدم النزاع عليه. راكمت هذه العائلات ثروة ونفوذا استخدمتها لدعم أجندات سياسية مختلفة، من بينها على سبيل المثال الصراع ضدّ الاستعمار في فلسطين، وبقيت تؤدّي دوراً أساسيا في الاقتصاد القائم على استخراج الألماس والذي يؤثر سلباً على السكان المحليين. أذكر هذا المثال هنا لأنّ العاملين والعاملات والمهاجرين والمهاجرات من هذه البلدان عانوا من العنف لعقود في لبنان، ويجب علينا أن نوسّع عملنا السياسي والتضامني بحيث يظهرالارتباط الوثيق بين هذين الخطين التاريخيين بشكل جليّ.

إنّ انقطاع التواصل مع الأقارب والأرض، وعدم وضوح الحاضر والمستقبل، والتعرض للهشاشة هي التجارب الأساسيّة التي يمرّ بها المهاجرون والمهاجرات قسريّاً. لم تكن هذه التجارب خيارا يوماً، ولا يمكن فصلها عن الظروف المتجذرة في الأنظمة التي أنهت قروناً من الاستقلال الاقتصادي في بلدانهم الأمّ. يعاني العاملون والعاملات المهاجرون والمهاجرات إذن من مأساة مضاعفة تبدأ بالخسائر غير المحدودة الناتجة عن الترحيل، وتستمر مع أشكال العنف العديدة التي يتعرضون لها في بلدان الاستضافة. وتتعرض العاملات المنزليات لهذه المأساة بشكل مركّز أكثر من غيرهن حيث يتعرضن لأذى صارخ ناتج عن تقاطع ديناميكيات القوّة القائمة على النوع الجنسي مع تلك القائمة على أساس العرق والطبقة.

الاستعباد القائم على النوع الجنسي

لقد فضحت "بنشي يمير"، وهي إحدى مؤسِّسات جمعية "إنيا لينيا" لعاملات الخدمة المنزلية التي يُدرنَها بأنفسهن والتي يعني اسمها بالأمهرية "منّا لنا"، الاعتداءات التي تتعرض لها العاملات المنزليات المهاجرات الآتيات من دول الجنوب العالمي في لبنان في ظلّ نظام الكفالة. كثيرا ما نقابل في القصص التي تستند عليها رواية بنشي، وفي قصص العاملات المهاجرات الأخرى، ، نساء سُجِنَّ بين أربعة جدران وأُخضعن لنزوات موظِّفيهنّ اللبنانيين، فمنعن من الاتّصال بالعائلة أو تكوين علاقاتٍ مع العالم الخارجي، وتعرّضن للمعاملة الوحشية والاغتصاب والقتل، وتركن أمام أحد خيارين: الهرب والعيش بدون وثائق، الأمر الذي ينطوي على مخاطر جسدية واقتصادية وقانونية بذاته، أو الاستسلام لموتٍ اجتماعيّ، إن لم يكن الموت بيولوجيا. يستفيد الكثير من الذين يوظّفون العاملات المهاجرات من حماية الدولة الموجودة على أرض الواقع  فيعتبرونهنّ "سلع عمل" يمكن الاستحواذ عليهن جسداً وقوة عملٍ. يستثمر هؤلاء أقلّ ما يمكن في إعادة إنتاج الجسد العامل بينما يبلغون أقصى الحدود في استغلال قوة العمل، وإشباع الرغبات الجنسية، وإرضاء النزعات السادية التي تعتمل داخلهم.

يستفيد الكثير من الذين يوظّفون العاملات المهاجرات من حماية الدولة الموجودة على أرض الواقع  فيعتبرونهنّ "سلع عمل" يمكن الاستحواذ عليهن جسداً وقوة عملٍ. يستثمر هؤلاء أقلّ ما يمكن في إعادة إنتاج الجسد العامل بينما يبلغون أقصى الحدود في استغلال قوة العمل، وإشباع الرغبات الجنسية، وإرضاء النزعات السادية التي تعتمل داخلهم.

إنّ نظام الكفالة يكاد يشرعن السلطة الممنوحة لمن يوظفون العاملات الأجنبيات التي تخوّلهم الفصل بين الحياة والموت، والتي يمارسونها بشكل متكرّر إلى درجة تجعل مقارنتها بالعبودية أمراً ممكناً، وبالأخص كون العمل المنزلي لا يمكن أن يفهم على أنّه عمل بالصيغة المجرّدة لما يعنيه العمل. إن الاكتفاء بوضع العمالة المنزلية في إطار مفاهيم العمل يعبّرعن قصور في شرح الانحدار الطاغي من تلازم القوى العاملة labor-power إلى تلازم العمل بالتسليع labor-commodity. يكشف الالتفات إلى ديناميكيات القوة المرتبطة بالأجساد المصنفة جندريا الموضوعة في الأسر كيف أنّ موقع العاملات المنزليات في ظلّ نظام الكفالة يشبه، جزئيا على الأقل، موقع العبيد إذا ما كانت نظرتنا عابرة للتاريخ. يعود تاريخ العبودية المديد في منطقتنا، وإن كان لا يشبه دائما تاريخ العبودية في الأمريكتين بالضرورة، إلى العصور القديمة ومن ثمّ التوسع الإسلامي والاصطدام بالكولونيالية. لكن من النادر مواجهة هذا الإرث وذلك غالبا لحفظ ماء الوجه على المسرح العالمي الذي يعجّ أصلا بأشكال النفاق الليبرالي. 

على العكس من ذلك فإنّ المساءلة التاريخية لفترة العبودية في الولايات المتحدة، رغم قصورها، بدأت منذ القرن التاسع عشر، بقيادة مثقفين سود كانوا أنفسهم أسلافا للمستعبَدين والمستعبَدات من أمثال فريدريك دوغلاس ووليام دو بويز. وقد أصبحت العنصرية، وريثة العبودية، قضية عامّة بدفع من حركة الحقوق المدنية، وحزب الفهود السود Black Panther Party، ومؤخرا حركة "حياة السود مهمّة" Black Lives Matter. إننا ندين لكتابات المنظرين والمنظرات السود الراديكالية، رغم الاختلافات في السياق، على تقديمها الفريد والتحرري لمسائل العبودية والعنصرية، لكونها تعطينا إطارا يمكننا من خلاله التفكير في الظروف الشبيهة بالعبودية التي يعيشها العمال والعاملات المهاجرون والمهاجرات في ظلّ نظام الكفالة.

لقد كان العنف الروتيني في الجنوب الأمريكي قبل الحرب الأهلية مؤسسا لعلاقة السيد والعبد التي جرى الاعتماد عليها في تشكيل حالة الخضوع التي يعيشها العبد فقد كانت رغبة مالكي العبيد  في تشويه المستعبدين والمستعبدات أو اغتصابهم أو تقطيع أوصالهم أو قتلهم دون اكتراث ذات أولوية أكبر من استغلالهم اقتصاديا. تنقل الباحثة في مجال دراسات السود النقدية سعدية هارتمان مدى فظاعة هذا الواقع الذي يصعب اختزاله بالكلمات عندما تكتب إن "الدخول عبر البوابة الملطخة بالدم [كان] اللحظة الافتتاحية لتشكيل هوية الشخص المستعبد". تكشف المقارنة مع العبودية في هذه النقطة عن وجود تجارب مشتركة بين العاملات المنزليات والعبيد، وإن كان ثمّة فروق، فعلى الرغم من أنّ العنف الموجّه للعاملة المنزلية منتشر ويشير إلى خضوعها إلى أنّه لا يسبق الاستغلال الاقتصادي بشكل أساسي، قانونياً على الأقلّ.

تكشف المقارنة مع العبودية في هذه النقطة عن وجود تجارب مشتركة بين العاملات المنزليات والعبيد، وإن كان ثمّة فروق، فعلى الرغم من أنّ العنف الموجّه للعاملة المنزلية منتشر ويشير إلى خضوعها إلى أنّه لا يسبق الاستغلال الاقتصادي بشكل أساسي، قانونياً على الأقلّ.

يجري تبرير العنف في كلتي الحالتين بالاستناد إلى البنى العرقيّة، لكنّ ملّاك العبيد كانوا يمارسون الإخضاع على اعتباره حقّاً بخلاف من يوظّفون العاملات المنزليات في إطار نظام الكفالة. لم يكن المستعبدون والمستعبدات يعملون بالسخرة فحسب بل إنّهم كانوا يعدّون ملكاً منقولاً، أي أنّهم كانوا ملكية خاصّة يحوزها المالك مدى الحياة ويمكنه التنازل عنها بإرادته فقط. تقدّم وقائع مجزرة سفينة زونغ Zong ship massacre التي ارتكبت عام ١٨٧١ مثالا بارزا على هذه الحالة القانونية، ففي هذه اللحظة التأسيسية لتجارة العبيد عبر الأطلسي جرى إغراق رجال ونساء أفارقة، يقدّر عددهم بمئة وخمسين، بعد أن تناقصت مياه الشرب على السفينة، حتى يتسنّى للقبطان الأبيض وأولئك الذين كان من المفترض أن يصيروا ملّاكاً للعبيد الحصول على أموال التأمين تعويضا على "خسارة الحمولة".

إبطال نظام الكفالة ليس كافيا

إن هناك إمكانية حقيقية لحصول الاستعباد التملكي في ظلّ نظام الكفالة - خصوصا مع كون الدولة تتغاضى عن الأفعال السادية التي يمارسها الموظِّفون القساة، وعن حبس العاملات المهاجرات داخل المنازل حتى بعد انتهاء عقد التوظيف الذي يمتدّ سنتين، كما تدعم ضمنيّاً مصادرة وثائق السفر، وبالتالي مصادرة الحق في السفر بحريّة، منذ لحظة الوصول - لكنّ العاملة في إطار هذا النظام لا تعتبر ملكاً لمن يوظّفها بالتعابير القانونية، حيث يعتبرها القانون "مسؤولية" من يوظّفها، مما يجعل العلاقة تملّكية بشكل أقل فجاجة وبشكل مؤقّت. بهذا المعنى تبقى ديناميكيات الإخضاع فاعلة في العلاقة بين الموظِف والعاملة لكنّها تتقنّع بالألفاظ الأبوية. ينطوي نظام الكفالة الذي يرسّخ علاقة قائمة على المسؤولية، على افتراض عنصري متجذّر اجتماعياً قوامه أنّ العاملة المهاجرة التي ينظر إليها من منظار العرق مجرمة محتملّة من الواجب حبسها للحفاظ على الأمن العام.

 ينطوي نظام الكفالة الذي يرسّخ علاقة قائمة على المسؤولية، على افتراض عنصري متجذّر اجتماعياً قوامه أنّ العاملة المهاجرة التي ينظر إليها من منظار العرق مجرمة محتملّة من الواجب حبسها للحفاظ على الأمن العام.
إنّ التركيز على قانون الكفالة، في هذا الوضع المعقّد الذي تتواطأ فيه الآليات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية من أجل بناء هرميات القوّة وتوزيع الثروة بشكل غير عادل، ضروري لكنّه ليس كافيا. ويقدّم سياق العبودية في الولايات المتحدة هنا أيضاً حالة تساعد على فهم كوامن قصور المنظور القانوني المجرّد، فالإصلاحات القانونية التي طبقت هناك في القرن التاسع عشر التي أزاحت نقل الملكية المرتبط بالعبودية ودفعت نحو الإقرار بإنسانية المستعبدين والمستعبدات لم تؤدّ بالضرورة إلى تحسين حياتهم وحياتهنّ. حتّى إبطال العبودية عام ١٨٦٥ لم يقد إلى تحرير السود حقّاً ولا هو أدّى إلى منحهم القدرة على ممارسة الامتيازات البشرية الكونية التي تزعم الليبرالية إعطاءها.

لا يمكن لإبطال نظام الكفالة أن يضمن حصول العاملات المهاجرات على الاستقلال والكرامة لعدم إمكانية فصل القوانين في المستقبل المنظور عن العرق وعن البنى الاجتماعية والاقتصاديّة التي تستفيد مباشرة من العنصرية. يقلّ احتمال الحصول على الاستقلال والكرامة بشكل أكبر بكثير في حالة الاكتفاء بإصلاح نظام الكفالة. إذا ما نظرنا بشكل سطحي يمكن أن تبدو العنصرية، التي ابتدعت لتحقيق المصالح الاستعمارية والإمبريالية، على شكل مجموعة بنى اجتماعية هرمية تسبح في عالم مجرّد تشكله اللغة والأفكار، لكنّ الحقيقة هي أنّ مقوّمات العنصرية هي الممارسة اليومية للعنف (الذي يكون أشدّ أذى للنساء عادة)، والتوزيع المتباين لأشكال التداعي والقلق، والتبرير المنتظم لأشكال السلب والاقتلاع التي لا تحصى والتي تلتحم في بنية الاقتصاد السياسي العالمي. إنّ العنصريّة هي إحدى مكونات الوعي المجتمعي التي مأسستها الدولة، وهي تظهر بعمق تجارب العاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات الذين لا يعتبرون منذ البداية عاملين وعاملات بشكل مبسّط بل هم دائما مهاجرون "أشدّ سمرة"، ومجندرون، ومؤنثون، وأدنى مرتبة بشكل متأصل، وبحاجة إلى من يحضّرهم، وطفوليون، ومجرمون. ليس نظام الكفالة وحده ما يجعل العنف ممكنا، بل تضاف إليه العنصرية والذكورية، والنظام السياسي الاقتصادي العالمي الذي يستفيد من كليهما.

لا يمكن لإبطال نظام الكفالة أن يضمن حصول العاملات المهاجرات على الاستقلال والكرامة لعدم إمكانية فصل القوانين في المستقبل المنظور عن العرق وعن البنى الاجتماعية والاقتصاديّة التي تستفيد مباشرة من من العنصرية.

شهد العقد الماضي أعمال مناصرة تهدف إلى إصلاح نظام الكفالة قادتها كلّ من "جمعية كفى" ومنظمة هيومن رايتس ووتش. تركيز المؤسستين على الأطر القانونية خطوة مهمّة لكنّه لا يذهب نحو مساءلة الظروف المتجذرة في النظام الرأسمالي، ولا يقترب من عكس هذه الظروف. إنّ مطالب الإصلاح ملحّة، لكنّها ليست كافية، حيث جرى التعبير عنها باستخدام خطاب حقوق الإنسان الذي ينطوي على قصور في نقطتين. فأولاً، لا يستطيع هذا الخطاب التعامل مع كون إصلاح قوانين العمل لا يصمد وحده أمام العنصرية الممارسة عمليّاً داخل الأطر القانونية وخارجها. وثانيا، يتجاهل هذا الخطاب الإشارة إلى الاقتصاد السياسي المهيمن في ظل الرأسمالية المتأخرة الذي يعدّ السبب الأوّل لأنماط هجرة العمالة من مناطق جغرافية في الجنوب العالمي إلى نطاقاتنا الجغرافية. على الرغم من ذلك، وبما أن هناك حاجة للتحرك الفوري من أجل التعامل مع أوضاع العمالة المهاجرة والعاملات المنزليات بالأخص، فإنّ توسيع قانون العمل ليضم هذه العاملة واتحاداتها النقابية وتطوير الأحكام القانونية ليتمكن العاملون والعاملات من العيش والعمل بشكل مستقلّ عن الكفلاء تعدّ أولويّات حاسمة على المدى القصير.

التضامن الآن وفي المستقبل

ماذا يعني في النهاية أن نأخذ موقفاً تضامنيا مجدياً مع العاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات في مواجهة كلّ من العنف القائم على العرق والبنية الاقتصادية السياسية المهيمنة التي حولتهم إلى فائض سكّاني؟ إن من الواجب إبطال نظام الكفالة العدواني العنصري الإقصائي، الذي يساعد على "إعادة إنتاج" الطبقة الوسطى اللبنانية الذي يعدّ خطّ إمداد أساسي يضمن استدامة الإنتاج والنمو الرأسماليين، لكنّه ليس الواجب الوحيد. ما يوازي هذا الإبطال في الأهمية، بل ربّما يفوقه أهميّة، هو العمل على تشكيل خيال جمعي والتنظيم على أرض الواقع العاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات من أجل تحقيق ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية تضمن العيش الكريم. وقد صاغت هذا الخط في التفكير بالفعل كلّ من حركة مناهضة العنصرية والمركز المجتمعي للعمالة المهاجرة Migrant Community Center.

يجب أن تصوغ العمالة المهاجرة بذاتها أفق الحياة الكريمة هذا وأن تأخذ دور الريادة في صياغته، على عكس ما حدث في اللقاء الذي عقد في ١٩ حزيران الفائت بين المنظمات غير الحكومية التي لا يديرها العاملون والعاملات المهاجرون والمهاجرات مع وزيرة العمل لميا يمين دويهي والذي كان يمكن أن يكون له معنى أكثر لولا هذا القصور. قد يبدو هذا الأفق بعيد المدى لكنّ بادرة الأمل الأولى ربما تكون تشريع وضع قانوني جديد للعمل، تدعو له مجموعات العمالة المهاجرة والمجموعات الأخرى منذ وقت طويل، يضع حدّا بالقانون لديناميكيات التوظيف القائمة على تلازم العمل بالتسليع، ويضمن في الحد الأدنى أن تكون الحياة الاجتماعية السياسية للعاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات مستقلة عن كفالة الأشخاص أو كفالة الدولة، ويعاقب بأقصى ما يتيحه القانون مرتكبي العنف بحق العمالة المهاجرة. يبقى تحقيق الجملة الأخيرة ممّا سبق غير ممكن حتى الآن بسبب الحماية التي تقدّمها علاقات الرعاية السياسية.

التضامن الجادّ مع العمالة المهاجرة، في الأفق الأبعد الأكثر راديكالية وتحرّراً، سوف يقود إلى الالتحام مع النضال الأممي في وجه الأنظمة الإمبريالية والعنصرية والرأسمالية التي تحكم حياتنا وحياة المنتمين إلى هذه العمالة في كلّ مكان.

الخطوة التالية نحو الوصول إلى الأفق المطلوب قد تكون صياغة طرق قانونية للحصول على الإقامة الدائمة والجنسية إذا ما كانت تلك رغبة العاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات. لا يخلو هذا الطرح كذلك من المحاذير حيث أنّني شهدت كيف أنّ تجنيس العمالة المهاجرة في الشمال العالمي، وإن كانت قد حسنت الظروف المادية والقانونية للمهاجرين والمهاجرات، إلّا أنّها لم تبطل حتى الآن العنصرية، التي تظلّ تشكّل واقع الحياة المعاش وخصوصا في المناطق التي تخلو من التنظيم المجتمعي.

التضامن الجادّ مع العمالة المهاجرة، في الأفق الأبعد الأكثر راديكالية وتحرّراً، سوف يقود إلى الالتحام مع النضال الأممي في وجه الأنظمة الإمبريالية والعنصرية والرأسمالية التي تحكم حياتنا وحياة المنتمين إلى هذه العمالة في كلّ مكان. قد ترى الأغلبية التي خاب أملها مراراً أنّ الأممية قد ماتت منذ زمن بعيد إن لم تكن في الأصل مجرّد طموح سامِ، لكن التطلع إلى تحرير جغرافياتنا وجغرافيات العمالة المهاجرة من الاحتلال الرأسمالي المديد ودائم التوسّع يبقى حتميّاً. هذا لا يعني أنّنا جميعا في نفس المستوى. نحن بعيدون عن هذا فالعنصرية تفرّق بيننا. التضامن الجادّ يعني أن نعمل معاً على التخلّص من العنصرية واستعادة السيطرة على أراضينا واقتصاداتنا المختلفة من أجل تحقيق العيش الكريم الذي لا تعود معه الهجرة المؤقتة أفضل الحلول سواء لنا أو للعمالة المهاجرة.

تشكر الكاتبة كلّاً من كريستين هونغ، ولارا بيطار، وربيع مصطفى، وهشام صفي الدين، وسارة ونسا، ودينيس برو، ويودي فينغ، وديما حمادة.


ملحق

في الرابع من أيلول ٢٠٢٠ أعلنت وزيرة العمل ليلى يمّين الدويهي إصدار نسخة معدّلة من قانون العمل الموحد. وعلى الرغم من تشريع النسخة السابقة من القانون عام ٢٠٠٩ بهدف تنظيم العمالة المنزلية المهاجرة، إلّا أنه بدا منذ البداية قاصراً عن تحسين شروط العمل والظروف المعيشية للعاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات، وذلك للأسباب المعروضة في المقالة أعلاه. وتضم البنود المعدلة في النسخة الجديدة من العقد تأمين غرفة خاصة منفصلة في منزل أصحاب العمل مجهزة بقفل ويبقى مفتاحها مع العاملة وحدها، والتأكيد على البند المنصوص عليه سابقا و المتعلق بالأجر، والدفع في نهاية كل شهر (من دون تحديد عملة الدفع)، وبعكس النسخة القديمة يحسم منه بدل المأكل والسكن والملبس، وتحديد عدد ساعات العمل ٤٨ ساعة في الأسبوع، وإمكانية مغادرة المنزل والتواصل مع الآخرين في فترات الراحة وأيام العطل، والحق بفسخ العقد بشكل أحادي مع الالتزام بإعطاء مهلة لا تقل عن الشهر.

لكن البند الأخير لا يأتي على ادارج الشروط القانونية المرتبطة بالانتقال للعمل لدى أصحاب عمل جدد بشكل شامل، بما في ذلك عدد المرات التي يمكن للعاملين والعاملات تغيير الكفيل ومكان العمل. وقد يجبر هذا الامتناع إذا ما كان صحيحاً، العديد من العاملات المنزليات على الاستمرار في العمل ضمن ظروف سيئة من أجل تجنب الهشاشة الاقتصادية والترحيل. وقد أشارت الباحثة القانونية سارة ونسة في مكالمة شخصية بيني وبينها إلى الضبابية التي تلف موضوع القانون عبر السؤال: "هل يعني فسخ العقد مع أصحاب العمل أن شرعية إقامة العاملين والعاملات سوف تصبح مهددة كما هي الحال الآن؟". هذه إحدى القضايا التي سوف يجد المجتمع المدني والعمال والعاملات أنفسهم أمامها عندما تنتشر النسخة الجديدة على نطاق واسع.

الوزيرة الدويهي قدمت عقد العمل الموحد المعدّل على أنه قانون "يبطل نظام الكفالة"، لكن هذا بالنسبة للكثيرين، ومن بينهم ونسا، "مضلل… عرض إعلامي" يمكن أن "يحدث بعض التحسينات" لكنه "بالتأكيد لا يبطل نظاما كاملا وبنية قائمة على الاستعباد". كذلك لم تظهر العاملة المنزلية السابقة بانشي يمير حماسة كبيرة للضجة التي أحاطت بالإعلان الذي يحرف الانتباه عن القضايا الأكثر إلحاحا. جاء ردّ يمير، التي لا تبدو مهتمة بمجرد إصلاح نظام الكفالة وهو بات ادعاءً عديم الأثر في هذه اللحظة الزمنية، على الشكل التالي: "نحن نحتاج إلى خطوات تتعامل مع أوضاع أكثر من ٣٠٠ ألف عاملة منزلية عالقة في لبنان بتهم سرقة باطلة، وتحجز جوازات سفرهن، ويحرمن من رواتبهن، ويستعبدن، وينتحرن، ويعانين من المرض النفسي، ويتعرضن للاغتصاب. لم يجر التعامل مع كل هذا لسنوات. دعونا نرجع إلى أوطاننا!"

لقد تكرر في الواقع امتناع العاملين والعاملات المهاجرين والمهاجرات عن الانجرار لسماع وعود الإصلاح حتى قبل الانفجار الذي حدث في الرابع من آب ٢٠٢٠. فالعاملون والعاملات من اثيوبيا والفلبين ومن بلدان أخرى يتظاهرون أمام سفارات بلدانهم منذ زمن اعتراضاً على الظروف المادية والمعيشية الرثّة، التي تتلاشى إمكانية تجاوزها في ظلّ الجائحة العالمية والأزمة الاقتصادية، مطالبين بالعودة للوطن. وقد كان التفجير الذي شهده مرفأ بيروت آخر الأحداث التي حولت هذا التظاهر إلى حدث يومي، يظهر بشكل بارز أمام القنصلية الكينية حيث تقيم العاملات المنزليات الكينيات اعتصاما منذ أوائل آب للمطالبة بالعودة إلى بلدهن. إصلاح نظام الكفالة لم يعد مطلبا أساسيا، العمال والعاملات المهاجرون والمهاجرات يريدون مغادرة لبنان.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.