Main Content

السيطرة على إنتاج المعرفة تضامنًا مع فلسطين

ما هي مسؤولية منتجي المعرفة تجاه فلسطين؟

كيف يمكن للصحافيين والعلماء والكتاب والمصورين والمترجمين والمحررين والفنانين أن ينتجوا معرفة وفنًا في سبيل التضامن مع فلسطين؟

بالنسبة للكثيرين منا، تحصر إجابتنا التضامن بالمحتوى، فنقول لأنفسنا بأننا نوثق الاستبداد الذي يخضع له الفلسطينيون ونشهد عليه عبر المواد التي ننتجها. فمن خلال أفكارنا وكتاباتنا وصورنا وتغريداتنا، فإننا ننشر الخبر ونتصدى للسرديات السائدة التي تطبّع مع العنف العنصري الإسرائيلي، كما نولّد سبل رؤية جديدة. فهكذا وصلنا إلى اعتماد واسع لوصف  لإحتلال  بأنه "أبارتهايد" أو فصل عنصري، بل والأفضل من ذلك  بأنه استعمار استيطاني. ومن خلال هذا المنطق فإننا نضع إيماننا بأن المعرفة كمحتوى يمكنها  أن تزعزع عملية إنتاج القبول.

أما بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بأن الأفكار وحدها غير كافية إلى حد يرثى له، فإن التضامن يتطلب أن نجسد هويات أخرى، مثل "ناشطون" أو "منظِمون" أو ببساطة "عاملون"، وأن نجمعها بتناغم، أو على الأقل بجهد بنّاء، مع صفة "منتجي المعرفة". فهذه التقاطعات هي التي وَلّدت الممارسة التي يشرع من خلالها الأكاديميون والفنانون بالإبداع والأداء تضامنًا مع التحرير، والتي كرست ونمت حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها  (BDS) في الأوساط الأكاديمية والفنية.

ولكن على الرغم من جهودنا لتوظيف إنتاج المعرفة من أجل تحرير فلسطين، تواجهنا حقيقة غير مريحة، فإننا لا نزال نتنازل بشكل روتيني ومن دون علم عن قوتنا العظمى كمنتجين للمعرفة . وهنا أستخدم كلمة "منتجين" بالمعنى الاقتصادي، أي بمعنى الأشخاص الذين يخلقون قيمة اقتصادية. ومن هذا المفهوم، من الناحية الاقتصادية، لا يمكننا إنكار أن قوتنا العظمى كمنتجين للمعرفة تأتي من مشاركتنا في النظام العالمي المعروف بالملكية الفكرية.

إن نظام الملكية الفكرية هو نظام شامل ومهيمن ، فإنه يتضمن حقوق التأليف والنشر التي تنطبق على كل أنواع الكتابة من أرفع الإنجازات العلمية إلى هذا المقال وحتى إلى خربشات على دفتر، وأيضاً جميع الفنون والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي والتصميم الغرافيكي وألعاب الفيديو وحتى برامج الكمبيوتر. أما الاختراعات التكنولوجية والأدوية المنقذة للحياة، فتدخل الاقتصاد كشكل آخر من أشكال الملكية الفكرية، أي براءات الاختراع، حتى أن بعض النباتات والبذور تحمل براءات اختراع حاليًا.

صارت الملكية الفكرية جزءًا من كل سلسلة توريد عالمية وكل اتفاقية تجارية. وفي حين أن القانون الدولي لحقوق الإنسان لا سطوة له، فإن انتهاك قوانين الملكية الفكرية الدولية قادر على إيقاف الحركة التجارية.

أدى الانتشار الواسع للملكية الفكرية إلى تحويلها إلى فئة الأصول الأعلى قيمة والأقوى في العالم، مما قزّم السلع المادية والموارد والملكية المادية. فرض المستعمرون والمستوطنون الأوروبيون الملكية الفكرية على بقية العالم من خلال العلاقات التجارية الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، حتى صارت جزءًا من كل سلسلة توريد عالمية وكل اتفاقية تجارية. وفي حين أن القانون الدولي لحقوق الإنسان لا سطوة له، فإن انتهاك قوانين الملكية الفكرية الدولية قادر على إيقاف الحركة التجارية. فعلى سبيل المثال، مُنعت شركة سامسونغ من قبل المحاكم الأمريكية من توريد بعض المنتجات إلى الولايات المتحدة  ليس بسبب عمالة الأطفال في سلسلة توريدها بل لانتهاك براءات اختراع شركة آبل.

حفزت الملكية الفكرية بصفتها نظامًا مهيمنًا الكثير من النقد المنطقي حول تجاوزاتها وظلمها وأضرارها، وحول الممارسات العنصرية والاستعمارية التي تقوم عليها. ولكن حين يتعلق الأمر بالممارسة والتطبيق العملي، أي بمشاركتنا في هذا النظام الشامل  من خلال الملكية الفكرية الخاصة بنا، يظل العديد من المبدعين ومنتجي المعرفة مكتوفي الأيدي. فهم يرون الملكية الفكرية، في حال انتبهوا لوجودها أصلا، بمثابة منصة قانونية منسلخة عن اهتماماتهم وشغفهم، وقد يتفاعلون معها فقط عندما يذكرها الناشر أو الوكيل أو الجهة المانحة. كما أن يتنازل العديد من الأكاديميين بشكل كامل عن حقوق ملكيتهم الفكرية للجامعات التي توظفهم من دون علمهم بأنهم أقدموا على ذلك.

 

وليس من الصعب فهم هذه اللامبالاة بالملكية الفكرية، ففي نهاية المطاف من بيننا يريد الانخراط في حقوق قانونية صممت عمداً لتبدو مملة وتقنية ومبهمة؟ مثل غيرها من الأنظمة التي تحمي السلطة، فإن التعقيد الظاهر يصبح أساسي  لتطبيق ما يعرف بحراسة البوابة أو تنقيح المعرفة. لكن يوجد مذنِب آخر في خلق اللامبالاة، وتلك هي السردية الخبيثة التي تقف وراءها مؤسسات المعرفة والإنتاج الفني، والقائلة بأن المبدعين ليسوا عمالًا. فلأننا نستمتع بعملنا، فيتَوقع من المبدعين أن يمتنعوا عن المطالبة بحقوقهم وكأننا نعمل في مساحات عجيبة خارجة عن اقتصاد. وهكذا تصبح حقوقنا كماليات وليست حقوقًا، بما فيها كسب أجور صالحة للعيش، أو إنشاء النقابات، أو مطالبة مؤسسات عملنا بالإقلاع عن اللجوء إلى العمل بالسخرة والإستثمار في الوقود الأحفوري والابارتهايد، أو امتلاك إبداعاتنا. فكيف يمكننا تحقيق كامل إمكاناتنا كمنتجين فيما لا نزال غير معترف بنا كمنتجين؟

من خلال الوعي بقوتنا كمنتجين للأصل القيم الذي يرمز له الاقتصاد بالملكية الفكرية، وعبر استعادة حقوق إبداعنا، نطلق العنان لإمكانيات آسرة للتضامن العابر للحدود  والمجابه للقمع.

من خلال الوعي بقوتنا كمنتجين للأصل القيم الذي يرمز له الاقتصاد بالملكية الفكرية، واستعادة حقوق إبداعنا، نطلق العنان لإمكانيات آسرة للتضامن العابر للحدود القومية والمجابه للقمع.

وبالعودة لفلسطين، فإن تشغيل قوتنا كمنتجين يمنحنا اشتباكًا إضافيًا ضمن سلسلة الاشتباكات لإضعاف المؤسسات الإسرائيلية. فإلى جانب الأشكال الحالية والقيمة للتضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني، كالمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات،،يمكننا إضافة الإنتاج المعرفي كشكل إضافي وأساسي. وحيث تسعى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات إلى تقييد حرية حركة الإنتاج الإسرائيلي الملموس وغير الملموس في سبيل حرية الفلسطينيين، تتطلب هذه الاستراتيجية أيضًا أن نحدّ من حرية حركة إنتاجنا.

وهنا نصل إلى معلومة شائقة: بصفتنا منتجين للملكية الفكرية، فلدينا بالفعل الأدوات اللازمة لضم التزاماتنا السياسية إلى الهيكل الذي يحكم كيفية استخدام معرفتنا تجاريًا في العالم. فالملكية الفكرية ومثل جميع الممتلكات ليست سوى الحق في الاستبعاد. بُنيت القوانين القانونية والاقتصادية المعروفة بالملكية الفكرية بشكل خائب يستند على الأفكار الأوروبية من القرن السابع عشر حول الفردية والملكية العقارية، وأحالت جميع أشكال التعبير الإبداعي والاختراع إلى حقوق فردية حصرية. كل رمز نصادفه لحقوق التأليف والنشر © — وكل إشعار لحقوق التأليف والنشر "جميع الحقوق محفوظة" — هو في الأساس بمثابة لافتة حدودية تُعلمنا بحقوق المبدع في استبعادنا من "ملكيته". حتى عندما لا يكون حق التأليف والنشر واضحًا للعين المجردة، فهو يظل موجودًا لأنه ببساطة تلقائي. وحتى إذا لا نرغب به بصفتنا مبدعين، إلا أن حقوق التأليف والنشر تلازم جميع إبداعاتنا تلقائيًا إذا كانت تتناسب مع التعريف القانوني للمادة المحمية بحقوق التأليف والنشر.

ولكن توجد ثغرة حاسمة في هذا الهيكل: يمكن لكل مبدع أن يقرر كيفية ممارسة حقه في الاستبعاد. يمكنكم أن تختاروا الكلمات التي تحملها لافتتكم الحدودية.

ومثل جميع الممتلكات، فالملكية الفكرية ليست سوى الحق في الاستبعاد. ولكن إليكم الثغرة ههنا: يمكن لكل مبدع أن يقرر كيفية ممارسة حقه في الاستبعاد. يمكنكم أن تختاروا الكلمات التي تحملها لافتتكم الحدودية.

وقد سبق أن اتخذ كثيرون القرار بالفعل. فرخص المشاع الإبداعي (Creative Commons) التي استخدمناها في مصدر عام إلى اليوم هي مجموعة من العلامات الحدودية المتعارف عليها والتي تعكس الالتزامات السياسية المحددة لمن صاغوها. فيكمن الانشغال الجوهري لهذه الرخص بكيفية مشاركة الأفكار والثقافة بحرية أكبر، الأمر الذي يعكس أنها برزت من تصوّر علماء في الكمبيوتر والقانون السيبراني في أوروبا والولايات المتحدة في التسعينيات، عندما كان الإنترنت لا يزال يحمل وعدًا بالمشاركة اللامركزية.

ولكن ماذا لو لم نهتم بالمعرفة التي تتدفق "بحرّية"، كمبدأ تجريدي بلا جسد، واخترنا المعرفة التي تغذي التحرير؟ ماذا لو أصغينا بالفعل لأصوات الشعوب الأصلية والعلماء الناقدين الذين حذروا منذ زمن من أن الالتزامات تجاه ما يسمى "المشاركة المفتوحة" وبالمفاهيم الرومانسية المسماة "المجال العام" بصفتها مشهدًا محايدًا، إنما تستغل في الواقع عمل وأجساد الأشخاص الملونين والنساء وشعوب الجنوب العالمي والفقراء؟ ماذا لو أخذنا على محمل الجد فكرة أن الحركات مثل رخص المشاع الإبداعي لا تفعل شيئًا للحؤول دون هياكل الاضطهاد؟

ماذا لو اشتبكنا مع الحقوق الاقتصادية والقانونية الأوروبية التي مُنحت لنا كمبدعين بهدف استبعاد الآخرين من تعبيرنا الإبداعي وقلبنا المنطق رأسًا على عقب، واخترنا ألا نستبعد إلا الظالمين وبناهم التحتية؟

انطلاقا من روح هذا التفكر، نطلق في مصدر عام تجربة في التضامن الراديكالي.

من باب التضامن مع الشعب الفلسطيني، نمارس حقنا في استبعاد استخدام إنتاجنا من قبل المؤسسات الاستيطانية الاستعمارية التي تستبد بالفلسطينيين. من الآن فصاعدا يمنح ترخيص حقوق التأليف والنشر الخاص بمصدر عام الاستخدام التجاري المجاني لأي فرد أو كيان يقبلون واجب رعاية الحياة الفلسطينية ويستخدمون هذا الترخيص في ملكيتهم الفكرية الخاصة. يُستثنى بطبيعة الحال أي فرد أو كيان تحددهم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات كهدف للمقاطعة. بهذه الشروط، ننضم برفقة آخرين إلى حركة الترخيص الأخلاقي.

الآن يمنح ترخيص حقوق التأليف والنشر الخاص بمصدر عام الاستخدام التجاري المجاني لأي فرد أو كيان يقبلون واجب رعاية الحياة الفلسطينية ويستخدمون هذا الترخيص في ملكيتهم الفكرية الخاصة. يُستثنى بطبيعة الحال أي فرد أو كيان تحددهم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات كهدف للمقاطعة.

نحن على دراية بالوزن الرمزي لأي ترخيص فردي لحقوق التأليف والنشر. وبصفتنا منصة نشر صغيرة في لبنان ونسائية بأكملها ومستهدفة بشكل مباشر من قبل الأوليغارشية التي تريد إسكاتنا، فإن لمصدر عام مساحة صغيرة ضمن الجغرافيا الشاسعة لإنتاج المعرفة. ولكن لحسن الحظ، فإن أقوى التجارب تكون جماعية، ونحن نستلهم إمكانيات العمل الجماعي حول إبداعنا المتحد.

دعونا نتخيل، على سبيل المثال، الالتقاء في مشاع من منتجي المعرفة الذين يجمعون اختراعاتهم وفنونهم وأبحاثهم في خدمة التحرير الفلسطيني. دعونا  وبنفس الروح التي اتحدت بها الدراسات الفلسطينية مع دراسات الشعوب الأصلية من باب "السعي السياسي" نتصور قدرة المبدعين الفلسطينيين على التعاون بشكل أوثق في المشاريع التي يقودها الشعوب الأصلية لحماية المعرفة واستعادتها. دعونا نفكر معًا في استراتيجيات أخرى لنشر الإبداع كأداة مقاومة  اقتصادية ضد الاحتلال.

قد تبرز مشاركة مثمرة بشكل خاص من قلب المقاومة المتصاعدة في فلسطين للحقوق الرقمية التي أصبحت ميدانًا آخر للاستبداد، هذه المرة من خلال المراقبة والرقابة الجماعية غير المقيدة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. ومن خلال التعاون مع حملة No Tech for Apartheid، والتي مهدت الطريق لمنظمي القاعدة الشعبية وخبراء التكنولوجيا للمقاومة من خلال الامتناع عن العمل، فإن حملة "لا ملكية فكرية للأبارتهايد"  يمكنها التحكم بالملكية الفكرية الكامنة في السلطة الرقمية، كما ستذهب أبعد من التكنولوجيا. لا معرفة للأبارتهايد . لا إبداع للأبارتهايد. لا بذور للأبارتهايد.

نظرًا لكيفية تنظيم وإدارة العمل الإبداعي في اقتصادنا الحالي، فلا بد لتجربتنا أن تتعامل مع الأنظمة القانونية. ولكن للتوضيح،  إننا نقوم بهذا العمل ليس بسبب ثقتنا في هذه الأنظمة، بل لقناعتنا بأن نقاط الهشاشة والتنافر ومصادر السلطة الخفية في الأنظمة المستبدة تدعونا للاستيلاء  عليها، والعبث بها بروح مشاغبة، واعادة تصورها بشكل جذري.

ندعوكم للانضمام إلينا في تجربتنا المتجاوزة.

ستتحرر المعرفة عندما تتحرر فلسطين.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.