"نحن لم نحاول حتّى": عن فوضى التعامل مع كوڤيد-١٩ التي قتلت الآلاف
نشرنا هذا المقال باللغة الإنجليزية في الثامن من حزيران ٢٠٢١. منذ ذلك الحين عادت الإصابات بكوڤيد-١٩ للازدياد مجّدّدا مع نهاية شهر حزيران بعد فترة قصيرة من التراجع. تلوح في الأفق موجة وبائية جديدة بعد وصول متحّور دلتا، الذي يتسبب في انتقال أسرع للعدوى، إلى لبنان. تضاعفت خلال الشهّر الماضي نسبة إشغال الأسرّة العاديّة في المستشفيات بينما ازدادت أيضاً نسبة إشغال أسرة وحدات العناية الفائقة بشكل كبير، في وقت بلغت فيه القدرة الاستيعابيّة للمستشفيات أسوء حالاتها مع انقطاعات الكهرباء اليوميّة، والنقص في الدّواء والمعدّات، وهجرة العديد من العاملات والعاملين في القطاع الصّحّي. الكثير من الإصابات الجديدة ظهرت لدى أشخاص صغار في السّن غير حاصلين على اللّقاح، وفق تصريح رئيس مستشفى رفيق الحريري الحكومي فراس أبيض. وتبعاً لنموذج نظري أعدّته عالمة الأحياء التطوّريّة مالغورزاتا "غوزيا" غاسبيروڤيتش، وهي باحثة في جامعة كالغاري الكندية، فإنّ بالإمكان التغلّب على المتحوّر الجديد عبر دمج عمليّة إعطاء اللّقاح مع إجراءات صحّة عامّة صارمة تشبه إجراءات "صفر كوڤيد".
كان علي شحادة يملأ أي لحظة صمت بترديد أغانٍ تقليدية، كان بعضها في غاية القدم لدرجة أن حفيدته بتول لم تميّزها. كانت بتول تذهب مع والدها وأخيها بين الحين والآخر لزيارة جدّها علي في مدينة صور. كان الجدّ يأخذهم إلى لحّامه المفضّل لتناول اللحم الطازج مشويًا على الفطور، حيث كان يمازح بتول بالحديث عن شهيتها.
عند عصر أحد أيّام كانون الأول، التقته جارته سامية يعقوب عائدًا بقطاف البوملي من أرضه. أصرّ أن يعطيها بعضًا منه، فقالت أنها ستأخذ حصتها لاحقًا، بعدما تعود من السوق. كانت هذه آخر مرّة تراه فيها.
ظهرت في البداية على علي أعراض افترضت العائلة بأنها أعراض نزلة برد، إلا أنها اشتدت وأُدخل المستشفى. في ٢١ كانون الأوّل ٢٠٢٠، خسر علي، الثمانيني ذو الصحة الجيدة، معركة أليمة مع كوڤيد-١٩.
كان وقع الصمت وسكوت الأغاني ثقيلًا على زوجة علي، وأولاده، وأحفاده، وأصدقائه. قالت بتول أنّه "مات قبل أوانه"، واصفةً جدّها بالرجل القوي، وسليم الصحة، وطيّب القلب.
تضيف بتول أنّ جدّها وجدّتها لم يعرفا مدى فتك الفيروس، أو أهمية التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات، معتقدةً بأنّ حملة توعوية أوضح من قِبل الحكومة وإجراءات احترازية أشد كانت لتنقذ حياة جدها.
علي شحادة هو أحد ٧٩٠٩ شخصًا ماتوا بسبب كوڤيد-١٩ في لبنان حتى يوم نشر هذا المقال. كانت الحكومة لدى وفاته قد قضت تسعة أشهر محاولة احتواء تفشي الوباء، وفشلت مرارًا وتكرارًا. بعد وفاة علي بفترة قصيرة سُمح في لبنان بفتح المطاعم والبارات خلال فترة الأعياد، ممّا تسبب في طفرة في عدد الوفيات بسبب فيروس كورونا استمرت لعدة أشهر، حيث وصل معدّل الوفيّات إلى مئة وفاة يوميًا في أواخر كانون الثاني وأوائل شباط.
بدأ عدد الوفيات في لبنان يتناقص بانتظام منذ منتصف نيسان، إلا أن حالات الوفاة اليومية لا زالت مستمرة. هنالك على الأقلّ عشر لجان رسمية مختصة بكوڤيد-١٩ تابعة للحكومة اللبنانية، بالإضافة إلى العديد من الهيئات الاستشارية التابعة للبرلمان، والنقابات، والوزارات. ولكن بعد مرور عام على بدء تفشي الوباء الذي زاد من اللجان المتنافسة والمتداخلة، لم تأتِ أيّ من هذه اللّجان بخطّة شاملة لإدارة انتشار الفيروس.
يخشى خبراء الصحة العامة بأن غياب استراتيجية متماسكة قد يدفع بلبنان مجدّدًا نحو تفشٍ خارج عن السيطرة أو نمو متحوّر فتّاك من الفيروس، خاصّة مع بطء حملة التلقيح وعلو نسبة المترددين من أخذ اللقاح.
"لا وجود بعد لخارطة طريق أو استراتيجية استجابة قابلة للتنفيذ لمواجهة كوڤيد-١٩"، حسب قول خبيرة الصحة العامّة سارة تشانغ في مقابلة أجريناها عبر رسائل تويتر. "ماذا سيحدث عندما أو إذا ازداد عدد الحالات مجدّدًا؟".
يخشى خبراء الصحة العامة بأن غياب استراتيجية متماسكة قد يدفع بلبنان مجدّدًا نحو تفشٍ خارج عن السيطرة أو نمو متحوّر فتّاك من الفيروس، خاصّة مع بطء حملة التلقيح وعلو نسبة المترددين من أخذ اللقاح.
تشكلت مجموعة صغيرة من الطبيبات والأطباء والعالمات والعلماء ذوي الخبرة "اللجنة اللبنانية المستقلة للقضاء على كورونا (كوڤيد١٩)" وهي تحث لبنان على تبني مجموعة من إجراءات الصحة العامة طويلة الأمد تقع مجتمعة تحت اسم "صفر كوڤيد". كان معدل الإصابات والوفيات في البلدان التي اتبعت هذه الإجراءات، وهي حوالي اثنتي عشرة دولة، منخفضًا نسبيّا. بعض هذه البلدان، مثل نيوزيلندا وأستراليا، أعادت فتح المنشآت التجارية الكبيرة، وشهدت إقامة حفلات موسيقية في مدرجات محتشدة، وعاد النشاط الاجتماعي والاقتصادي فيها إلى مستويات ما قبل الوباء. كما أنقذت الإستراتيجية الأرواح في بلدان ذات دخل متوسط أدنى مثل فيتنام وكمبوديا اللتين شهدتا نسبة وفيات قليلة جدًا رغم ظهور متحوّرات جديدة سريعة الانتقال فيهما.
تؤمن اللجنة المستقلة أنه كان باستطاعة الدولة اللبنانية إنقاذ آلاف الأرواح عبر اتّباع بعض الخطوات القائمة على الأدلّة: فرض إجراءات صارمة على القادمين عبر المطار، وإجراء الفحوصات للكشف عن الحالات الجديدة وعزلها بسرعة، والتواصل بشكل أوضح، وتقديم خطط إغلاق شامل متناسقة مع التعداد السكاني، وإرفاق الإغلاقات بدعم مادي.
رفضت الحكومة اللبنانية حتى الآن أخذ أيّ من مقترحات اللجنة المستقلة في الاعتبار، لكن خبراء الصحّة العامة يؤمنون بأن إستراتيجية "صفر-كوڤيد" لا تزال قادرة على مساعدة لبنان في احتواء تفشي الفيروس، كما قد تمنع وصول المتحوّرات الخطيرة. يقول الخبراء أن الإستراتيجية يمكن أن تخفف العبء عن النظام الصحّي المنهك، وتدعم الاقتصاد، الأهم من ذلك أن توقف المزيد من الوفيات التي يمكن تجنبها.
"إننا ندفع يوميًا ثمن عدم تنفيذ إستراتيجية جيّدة"، حسب قول الدكتور جاد خليفة، خبير الأوبئة والصحة العامة، والذي في قطاع الصحة العامة في لبنان لسنوات. "يموت الناس بشكل يومي لكنّ موتهم كان يمكن تجنبه".
ما هي إستراتيجية صفر-كوڤيد؟
تركز الجدل منذ العام الماضي حول طريقة تعامل الحكومات مع الوباء ضمن نموذجين مختلفين: النموذج الأوّل هو ما يسمّى "صفر كوڤيد"، حيث تتدخل الحكومة عبر إجراءات صارمة للتحكم بانتشار الوباء، أمّا النموذج الثاني فيقوم على سياسة عدم التدخل ويركز على تخفيف آثار الوباء ومحاولة تجنّب الإغلاقات.
لا تعني استراتيجية صفر-كوڤيد بالضرورة أن عدد الحالات سيظل صفرًا طول الوقت، بل تهدف إلى إيقاف انتشار الفيروس عبر أربع مبادئ مركزية: إجراء الفحوصات وتتبع المخالطين من أجل الإسراع في عزل الحالات النشطة، وفرض إغلاقات مركّزة على المناطق التي تنتشر فيها العدوى بشكل كبير، وإعادة الفتح محلّيًا وبشكل تدريجي، وإجراءات صارمة على السفر الدّولي.
مثلت تجربة فيتنام إحدى أولى قصص النجاح لاستراتيجية صفر-كوڤيد. أغلقت الدولة الشيوعية المدارس في كانون الثاني ٢٠٢٠، وأوقفت الطيران الدولي في آذار ٢٠٢٠. لم تسجّل أيّ حالة وفاة في البلد حتى ٣١ تموز ٢٠٢٠، أي بعد مرور ستّة أشهر على بدء تفشّي الوباء.
كان نجاح فيتنام في احتواء كوڤيد-١٩ مكلفًا، إذ أن الحكومة زادت من صرامة القيود على حرّية التعبير، وفشلت في حماية الحق في الخصوصية، وفق التقرير السنوي لهيومن رايتس ووتش.
أعلن وزيرالصحة الفيتنامي في نهاية أيّار ٢٠٢١ أنّ السلطات اكتشفت متحوّرًا سريع الانتقال من فايروس كورونا ناتجاً عن المتحورين اللذين ظهرا أولًا في الهند والمملكة المتّحدة. أغلقت السلطات في كبرى المدن الحدائق العامّة والمنشآت غير الأساسية لاحتواء المتحوّر الجديد.
لكن برغم الارتفاع الحالي لعدد الإصابات، سجلت فيتنام، وهي بلد ذو دخل متوسط أدنى عدد سكّانه ٩٦ مليون نسمة، ١٬٣٠٦ حالة وفاة حتى هذا التاريخ، وقد جرى تسجيل أكثر من نصف الإصابات وأكثر من ألف حالة من حالات الوفاة في تموز بعد تفشي متحور دلتا، وفقًا لمركز جونز هوبكنز لمراجع فيروس كورونا.
في المقابل، بلغ عدد الوفيات في لبنان، وهو بلد عدد سكّانه ٦ ملايين فقط ومصنّف بين البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، ٧٩٠٩ حالة وفاة. لو أنّ للبنان نفس معدل الوفيات نسبة لعدد السكان الذي في فيتنام، لكان العدد ثلاثة أشخاص.
يعتقد الدكتور خليفة أنّ الآلاف كان يمكن أن يكونوا على قيد الحياة لو أنّ لبنان تبنى إجراءات صحة عامة أشدّ وأكثر اتساقًا في المراحل الأولى من الوباء. "أربعة آلاف شخص ممّن هم في عداد الموتى اليوم كان يمكن أن يكونوا أحياء لو أنّنا اتبعنا إستراتيجية صفر- كوڤيد [بين أيلول وتشرين الثاني، ولو أنّنا منعنا زيادة الحالات في فترة الأعياد.] على حسب قوله. "هذا هو ثمن اتباع إستراتيجية فاشلة وغير فعّالة".
"أربعة آلاف شخص ممّن هم في عداد الموتى اليوم كان يمكن أن يكونوا أحياء لو أنّنا اتبعنا إستراتيجية صفر- كوڤيد [بين أيلول وتشرين الثاني، ولو أنّنا منعنا زيادة الحالات في فترة الأعياد.] على حسب قوله. "هذا هو ثمن اتباع إستراتيجية فاشلة وغير فعّالة".
د. جاد خليفة، أخصائي الوبائيات وخبير الصحة العامّة
قرّرنا في مصدر عام التمحيص في ادّعاء دكتور خليفة أنّ إجراءات صفر-كوڤيد كانت ستنقذ حياة ٤٠٠٠ شخص في لبنان. انطلقنا من بدايات الوباء من أجل مقارنة البيانات مع بيانات البلدان أخرى، ثمّ رسمنا مخططًا بيانيًا يظهر معدل الوفيات في لبنان مقارنة بتسع دول احتوت انتشار الفيروس باستخدام إجراءات مختلفة. بعض هذه الدّول اتبع تنويعات على استراتيجية صفر-كوڤيد كما فيتنام ونيوزلندا، بينما لم يتبنى بعضها الآخر هذه الاستراتيجية كما هي الحال مع المغرب والأورغواي.
من أجل حساب عدد الوفيات التي كان يمكن تجنبها منذ آذار عام ٢٠٢٠، اتبعنا منهجية طوّرها خبراء الطب والصحة العامّة في المركز الوطني للاستعداد للكوارث في جامعة كولومبيا.
أولًا: حسبنا عدد الوفيات المرتبطة بكوڤيد-١٩نسبة إلى عدد السكان في البلدان التسعة وذلك زودنا بمعدل الوفيات نسبة لعدد السكان في كل منها.
ثانيًا: طبقنا بعد ذلك هذه النسبة على عدد سكان لبنان، وهذا أعطانا العدد النسبي للوفيات التي كانت ستسجل في لبنان لو كانت نسبة الوفاة موافقة لإحدى الدول الأخرى (أي لو أنّ لبنان اتبع إستراتيجية أدّت إلى نسبة وفيات مماثلة).
ثالثاً: طرحنا بعد ذلك هذا الرقم النظري من الرقم الفعلي لعدد الوفيات في لبنان (حتى ٢٤ أيّار). الرقم الناتج هو عدد الوفيات التي كان يمكن تجنبها في لبنان لو أنّ الدّولة اتّبعت استراتيجية أدّت إلى نسبة وفاة مساوية أو قريبة من نسب الوفاة في الدول الأخرى.
الشكل ١: الوفيات التي كان يمكن تجنبها في لبنان تبعًا لاستراتيجية كل بلد
هذه الأرقام نظرية فقط حيث أنّ الظروف الجغرافية والاقتصاديّة والديموغرافية والاجتماعية السياسية في لبنان تختلف بشكل كبير عن تلك الظروف في البلدان الأخرى. لم تشهد أيّ من هذه البلدان انفجار ٢٧٥٠ طن من المتفجرات في أوج تفشي الوباء، لكنّ فيتنام وكمبوديا شهدتا فيضانات كارثية في خريف عام ٢٠٢٠ قتلت أكثر من ٢٠٠ شخص وتسببت في نزوح أكثر من مليون شخص في فيتنام وحدها، وتسببت بخسائر بلغت حوالي مليار ونصف مليار دولار.
إن الوصول إلى معادلة تراعي هذه المتغيرات أشدّ تعقيدًا لكنّه يستحقّ أن يُجرى، إلا أن المعطيات الحالية تشير إلى إمكانية تجنب وفاة الكثيرين من أمثال علي شحادة لو أنّ لبنان اتّبع إستراتيجية أفضل - أو أي إستراتيجية - منذ شهر آذار.
الشكل ٢: عدد الوفيات في لبنان وفقًا لإستراتيجية كلّ بلد.
"إنّهم لا يدعونا نعمل"
من أجل أن نفهم كيف وصل عدد الوفيات في لبنان إلى هذا الرقم العالي، ألقينا نظرة على اللجان الحكومية المختلفة. يوجد في لبنان الآن عشر لجان على الأقل مكلّفة بالاستجابة لكوڤيد-١٩. تسع من هذه اللجان تنضوي تحت وزارة الصحة العامّة، بينما تتبع اللجنة العاشرة للبرلمان. ليس لأيّ من هذه اللجان السلطة الكاملة.
ناقض ممثلو هذه اللجان بعضهم البعض حول الإغلاقات، وعانى الخبراء والخبيرات العلميون في تقديم النصائح للجان المختلفة، ورغم كثرة اللجان، فشلت إلى الآن سلطة اتخاذ القرارات المبعثرة بينها في التخطيط لاستراتيجية متناسقة وتنفيذها.
"إنّ إدارة الاستجابة لكوڤيد-١٩ في لبنان مختلة"، حسب قول الدكتور فادي الجردلي، وهو أستاذ جامعي وخبير معروف عالميًا في مجال سياسات وإدارة الصحة.
على سبيل المثال، نصحت اللجنة البرلمانية بإقفال المنشآت خلال فترة الأعياد وإغلاق المطار بعد ظهور المتحورات الجديدة، لكنّ اللجنة الوزارية رفضت ذلك متحججة بالأزمة المالية الشديدة وأعادت فتح البلاد خلال الأعياد بشكل كارثي أوصل لبنان إلى أسوأ نسبة وفيات.
"التواصل بين اللجان مقطوع، فبعض اللجان لا تتعامل مع لجان أخرى بسبب خلافات شخصيّة"، وفق الدكتورة باسكال سلامة، أستاذة الطبّ الوبائي في الجامعة اللبنانية وعضوة اللجنة المستقلّة. "الوضع مبكٍ ."
"التواصل بين اللجان مقطوع، فبعض اللجان لا تتعامل مع لجان أخرى بسبب خلافات شخصيّة...الوضع مبكٍ" - الدكتورة باسكال سلامة، أستاذة الطبّ الوبائي في الجامعة اللبنانية
الوضع مبكٍ فعلاً. في نهاية كانون الثاني عام ٢٠٢٠، أي قبل شهر من تسجيل أوّل حالة في لبنان، شكّلت الحكومة المكلفة حديثًا "اللجنة الوطنية لكوڤيد-١٩" للوقوف على الاستعداد والاستجابة للوباء على المستوى الوطني. لم تضم اللجنة أيّ خبير في الوبائيات، فتطوّعت الدكتورة سلامة للانضمام.
اقترحت الدكتورة سلامة في تمّوز عام ٢٠٢٠ مشروعًا لجمع وتحليل البيانات الديمغرافيّة لإصابات ووفيات كوڤيد-١٩، إذ أرادت معرفة معلومات عن من يصابون بالفيروس ويموتون بسببه (أعمارهم، ظروفهم الصحية، الإجراءات الاحترازية التي يتبعونها). هذه المعلومات أساسيّة لفهم طرق انتشار الفيروس، ومعرفة الأكثر عرضة لخطر الإصابة، وطرق حماية السكّان. وافقت اللجنة وعيّنت الدكتورة سلامة لتولّي إدارة المشروع.
لكن على الرغم من إعطاء اللجنة الضوء الأخضر للمشروع، رفضت وزارة الصحة العامة مشاركة البيانات التي تجمعها من المستشفيات. بعد شهرين من الأخذ والرد، طلب موظفو الوزارة مساعدة المتطوعات والمتطوعين والخبيرات والخبراء، وهو ما أمنته الدكتورة سلامة على حسب قولها. لكنّ الوزارة لم تشارك أيًّا من بياناتها.
"لم يقولوا لا أبداً. لم يقولوا إنّهم لا يريدون مشاركة البيانات، لكنّ طريقة التعامل والأعذار جعلتني أعتقد أنّهم بالفعل لا يريدون"، كما قالت الدكتورة سلامة.
عندما استقالت من اللجنة وحاولت جمع البيانات بمفردها، أعلمتها كلّ من نقابة الأطباء اللبنانية ومنظمة الصحة العالمية أن هناك فرقاً أخرى تعمل على تسجيل طبي، وأنّها لا تملك الحق في جمع نفس المعلومات، مما جعلها توقف العمل على المشروع.
"لا أريد أن أتقاعس لكن ليس بمقدوري فعل أكثر ممّا فعلت، إنّهم لا يدعونا نعمل"، قالت لنا الدكتورة سلامة والإحباط ظاهر في نبرة صوتها.
قامت الدكتورة سلامة بمحاولة أخيرة. انضمت في شهر تشرين الثاني عام ٢٠٢٠ إلى اللجنة الاستشارية للترصد الوبائي، وهي ناتجة عن التعاون بين منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العامّة.
"لم نناقش سوى طريقة عرض البيانات: أفقيًا أم عاموديًا"، تقول الدكتورة سلامة. "أتقصد تسخيف الأمر، لكنّهم لم يدعونا نجري نقاشات معمّقة حول الإستراتيجيات، والتوصيات، والإغلاقات، وبرنامج التلقيح".
قالت منظمة الصحة العالميّة إنّ دور لجنة الترصّد هو "دعم فريق وزارة الصحة العامة / اللجنة الاستشارية للترصد الوبائي في التخطيط الاستراتيجي، والتحليل، وتوجيه عمل اللجنة الاستراتيجية إذا اقتضت الحاجة". رفضت المنظمة التعليق على شكاوي الخبيرات والخبراء بعدم التجاوب من اللجنة.
طلبنا تعليق المستشار الإعلامي لوزارة الصحة لكننا لم نحصل على أيّ إجابة.
صفر-كوڤيد في لبنان
في تشرين الأول عام ٢٠٢٠، صمّمت اللجنة اللبنانية المستقلّة خطة صفر-كوڤيد للبنان وجاءت على الشكل التالي: إغلاق وطني واحد مع دعم مالي مباشر لمدّة أربعة إلى ستّة أسابيع، وهي مدّة دورتين أو ثلاث دورات لانتقال عدوى الفيروس.
تقسّم الحكومة المركزية والبلديات، وفق هذه الخطة، المناطق إلى نطاق أخضر ليس فيه حالات كوڤيد-١٩، ونطاق أحمر فيه حالة على الأقلّ، ونطاق أصفر ليس فيه حالات كوڤيد-١٩ لكنّه يجاور مناطق تقع ضمن النطاق الأحمر. قد تكون هناك حاجة في المدن الكبرى لتقسيم المناطق ضمن نفس البلدية.
"الفكرة أن يتمّ عزل الحالة فور اكتشافها وحجر المخالطين وبهذه الطريقة نحافظ على إيقاف الانتشار في المجتمع"، بحسب الدكتور خليفة.
يتم فرض إغلاق تام على المناطق الحمراء إلى أن يمرّ ١٤ يوم دون أن تسجّل فيها أيّ حالة نشطة، بينما يمكن للمناطق الخضراء فتح المنشآت والمدارس، ممّا يعطي النّاس دافعًا للالتزام.
يكون على الحكومة في لبنان، من أجل إنجاح هذه الاستراتيجية تخفيض مدّة الحصول على نتيجة فحص المسحة الأنفية PCR إلى أربع وعشرين ساعة وفرض قيود على الانتقال بين النطاقات. كما عرضت اللجنة المستقلّة ما هو مطلوب فيما يتعلّق بالسفر الدّولي، وفحص وحجر الحالات.
"تقدّم هذه الإستراتيجية بالتأكيد منهجية تدريجية وواضحة للاستجابة للوباء اعتمادًا على تقييم البيانات بشكل دقيق" وفق الدكتور الجردلي، الذي لم يكن ضمن الفريق الذي عمل على خطّة اللجنة المستقلة.
لكنّ لبنان لا يمتلك البنى التحتيّة التكنولوجية المطلوبة لوضع خرائط دقيقة للحالات، بحسب الدكتور الجردلي، كما أن التقسيم إلى نطاقات يعمل بشكل أفضل في حالة الثبات النسبي، لكن الكثر في لبنان لا يستطيعون العمل في نفس المنطقة التي يعيشون فيها.
مع غياب البنى التحتية المناسبة للنظام الصحّي وسوء إدارة الدولة للأموال العامّة، يتمحور السؤال القادم حول قدرة لبنان على دعم شبكة أمان اجتماعي، وتقديم المساعدة المالية، وإجراء الفحوصات وتتبع الحالات، وعزل الحالات النشطة. اعتمد لبنان في الاستجابة بشكل كبير على المساعدات الدولية التي يموّل البنك الدّولي معظمها.
يقول نبيل رزق الله، وهو عضو اللجنة الوطنية لكوڤيد ومستشار لوزارة العمل، إنّ الاختلاف بين استراتيجية اللجنة الوطنية واستراتيجية صفر-كوڤيد يقتصر على نقطتين، هما إغلاق الحدود والدّعم المالي، وهاتان نقطتان أساسيتان لإنجاح الاستراتيجية.
يعطي تقييم رزق الله لخطة صفر-كوڤيد التي تطرحها اللجنة المستقلّة مثالًا على طبيعة استجابة الحكومة للوباء. كان الإغلاق الشّامل في كانون الثّاني أحد أشدّ الإغلاقات في العالم، ورغم أنّ الالتزام كان متفاوتًا إلّا أنّه وصل إلى درجة مبهرة بلغت ٩٤ في المئة، لكنّ رزق الله ادّعى أنّ سكان لبنان لا يتحلّون بالمسؤوليّة المطلوبة للتعامل مع إجراءات إستراتيجية صفر-كوڤيد."لا توجد قوّات شرطة كافية لتنفيذ هذا في لبنان"، كما قال مضيفا أنّ "الشعب ليس منضبطًا بما فيه الكفاية".
"امشي حول منزلك"
تمشي مريم الشافي خمسة كيلومترات في حرج بيروت نهاية كلّ أسبوع أو على الكورنيش عند البحر. تعرّضت عام ٢٠١٦ إلى جلطة أثّرت على قدرتها في المشي والكلام بسهولة. تحتاج منذ ذلك الحين إلى المشي أسبوعيًّا، وإلى علاج طبيعي، وعلاج للنطق من أجل استعادة قدراتها الحركيّة ومتابعة حياتها بشكل طبيعي.
قبل عدّة أشهر، وخلال الفترة التي كان يتكرر فيها قرار إبقاء الناس في البيوت، اقترب شرطيّ من الشّافي بينما كانت تمشي على الكورنيش وقال لها بأنه من غير المسموح لها أن تكون خارج البيت.
عندما شرحت له حالتها والحاجة الطبيّة الملحّة للحركة قال لها بنبرة جافة: "امشي حول منزلك ."
تعتقد الشافي أنّ الإغلاقات المتكرّرة أوقفت تعافيها. أغلقت مراكز العلاج أبوابها، وأصبحت ممنوعة من المشي. "كنت سأتعافى بشكل أسرع وأفضل لولا الإغلاقات"، كما تقول.
تعتقد الشافي أنّ الإغلاقات المتكرّرة أوقفت تعافيها. أغلقت مراكز العلاج أبوابها، وأصبحت ممنوعة من المشي. "كنت سأتعافى بشكل أسرع وأفضل لولا الإغلاقات"، كما تقول.
في بداية تفشي الوباء التزم العديدون بالإجراءات الشاملة التي أبقت لبنان في وضع آمن. أمّا الآن، فمع الإحباط والشعور الزائف بالأمان، وفي ظل غياب حملات المعلومات الواضحة والمتناسقة، صار من المرجّح أكثر أن يخالف الناس توصيات الحكومة. يتناقص التزام النّاس مع كلّ إغلاق وإعادة فتح للبلاد، وهذه ظاهرة يسميها الدكتور جاد خليفة "يويو الإغلاقات."
عندما صممت اللجنة المستقلة خطّتها في تشرين الأوّل ٢٠٢٠ اعتقدت القائمات والقائمون عليها أنّ الناس سيلتزمون بنفس مستوى الاستجابة للإغلاق الأوّل في البلد، لكنّ الالتزام تناقص مع تعدد الإغلاقات بسبب غياب الدّعم المالي وأي نتائج فعلية.
تظهر تقارير غوغل للتنقل المجتمعي أن التنقلات خلال الإغلاق الأوّل ما بين منتصف آذار ٢٠٢٠ ونهاية نيسان إلى جميع الوجهات، بما فيها أماكن العمل والمحلات والصيدليات، كانت أقلّ من الحد الأدنى بشكل متناسق. أمّا خلال الإغلاقات التالية (آب، وأيلول، وتشرين الثاني ٢٠٢٠ إضافة إلى الإغلاق الأخير في شباط ٢٠٢١) فلم تنخفض التنقلات مثلما حدث في أوّل مرّة.
يعتقد الدكتور خليفة أنّ إغلاقاً لمدّة ستّة أسابيع في بداية الوباء كان كفيلًا بالسماح بفتح البلاد بشكل آمن، وربّما بشكل كلّي. لو حدث ذلك لكن بمقدور مريم أن تمشي وتتلقى علاجها عوضًا عن حبسها لأشهر خلال "إغلاقات اليويو".
"تتضرر صحّة النّاس بشكل يوميّ وكان يمكن تجنب هذا الأمر كليّا"، يقول الدكتور مضيفا أنّه "مع مضيّ الوقت تزداد كلفة عدم اتخاذ هذا القرار".
اليوم، بعد مرور سنة وشهرين على بدء تفشي كوڤيد-١٩، خرج لبنان أخيرًا من تهديد ممتد بانتشار منفلت. أعيد فتح العديد من المنشآت مع تطبيق غير منظّم لإجراءات التباعد الاجتماعي. تراجع عدد الحالات، وتراجعت مستويات انتشار الفيروس لكنّه لم يتم احتواؤه بعد وفقا لبيانات عرضتها سارا تشانغ، خبيرة الصحّة العامّة التي تشارك ملخصًا للبيانات المتعلّقة بكوڤيد-١٩ أسبوعيًّا.
"في حالة الأمراض المعدية الأخرى، لم نصل إلى مناعة القطيع إلّا عبر اللقاحات"، كما تقول تشانغ التي ترى إنّ "كوڤيد-١٩ لن يكون مختلفًا. اللقاحات هي أفضل وسيلة لمنع المرض الشديد والموت".
حصل ١٢،٨ في المئة فقط من السّكان على اللقاح الكامل حتى هذا التاريخ. كما أن أي حملة تلقيح تستثني العمالة الأجنبية واللاجئات واللاجئين في لبنان آيلة للفشل
لكن يبدو أن احتمال الوصول إلى مناعة القطيع يزداد صعوبة في جميع البلدان، وإعطاء اللقاح لعدد كبير من الناس في لبنان سيحتاج عامًا أو أكثر. حصل ١٢٫٨ في المئة فقط من السّكان على اللقاح الكامل حتى هذا التاريخ. كما أن أي حملة تلقيح تستثني العمالة الأجنبية واللاجئات واللاجئين في لبنان آيلة للفشل. تقول الدكتورة سلامة أن الفيروس سيستمر في الانتشار في حال لم يتوجه لبنان إلى إيقاف انتقال العدوى. وكلما زادت فترة الانتشار بين السكان كلما ازداد خطر ظهور متحوّرات خطيرة من قبيل المتحوّر الذي ظهر حديثًا في فيتنام.
بالنسبة للعديد ممّن نجوا بعد الإصابة بكوڤيد-١٩، فقد أصيبوا بالأذى. يعاني الكثير من هؤلاء بصمت من أعراض مستمرّة بعد أسابيع وأشهر من التعافي. هذه الأعراض هي التعب الشديد، وتشوّش الدّماغ، وفقدان حاستي التذوق والشمّ، وضيق النّفس، والسّعال، وألم المفاصل، وألم الصّدر. وفي بعض الحالات النّادرة حدثت لدى المصابين مضاعفات على شكل التهابات أو مشاكل في الكبد والرئة، مما يجعلهم عرضة للموت لأسباب أخرى غير كوڤيد-١٩.
تقول الدكتورة سلامة: "عادت الدّول التي استخدمت استراتيجية [صفر-كوڤيد] إلى الوضع الطبيعي أمّا نحن فلم نحاول حتّى".