Main Content
مجاهدان مرابطان في موقع للمقاومة الإسلامية. البقاع الغربي، لبنان. ١٩٨٧. (أرشيف المقاومة الإسلامية في لبنان)

مجاهدان مرابطان في موقع للمقاومة الإسلامية. البقاع الغربي، لبنان. ١٩٨٧. (أرشيف المقاومة الإسلامية في لبنان)

عملية تحرير موقع سُجُد: مجموعة الجنِّ الأزرق

كانوا يعرفون جغرافيا جبل الريحان وأرضه وتضاريسه وشجره وصخوره عن ظهر قلب كما يعرفون كفوف أيديهم في تلك الأيام الصعبة من ثمانينات القرن الماضي، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وإبقائه على منطقة سمّيت بـ”الحزام الأمنيّ“، ومن ثم طبّقت ما تُعرف بـ”القبضة الحديدية“ على الجنوب وقراه محاوِلة بالحديد والنار وجيش من العملاء والمقنّعين والعسس فرض الزمن الإسرائيلي على جبل عامل المتاخم للجليل من أرض فلسطين الحبيبة، لولا انبرت تلك المجموعة التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في أعالي قرى الريحان، في ”سُجُد“ تحديداً، القرية التي لم تصلها طريق الإسفلت حتى عام ١٩٦٤ وغابت عن حسابات استخبارات العدو وعيونه المبثوثة في كل مكان حول تلك التلال المباركة: حسن ن أو حيدر ورفاقه، فتية لم يبلغوا العشرين في حينها، كانوا رفاقاً في درس القمح وفرط الجوز وقطاف الزيتون ولعب كرة القدم فوق الثلج وتقفي أثر المعزاة الضائعة في القرية التي يلفها الضباب حتى في آب اللهاب. اجترحت مجموعة ”الجن الأزرق“ المعجزات بإمكانات بسيطة: سيارة مرسيدس جَهزَبلوحة، سيارة تاكسي للتمويه بمخابئ سرية تحت فرشها تنقل رشاشات الكلاشينكوف إلى مغاورهم في جبل الرفيع، ومعمل بسيط للنباريش البلاستيكية صار معملاً لصناعة العبوات الناسفة، وإقدام وصل إلى حدّ التهور، إذ حين لم تنفجر العبوة التي جهزها حيدر بالدورية الإسرائيلية ثأراً لاستشهاد الشيخ راغب حرب لعطل في البطارية الكهربائية التي تغذي سلكها، أراد ذلك الشاب بالشعر الأشقر الأشعث أن يشبكها على خطوط التوتر العالي، لولا أن نهاه رفاقه عن تلك المغامرة.

كانوا رفاقاً في درس القمح وفرط الجوز وقطاف الزيتون ولعب كرة القدم فوق الثلج وتقفي أثر المعزاة الضائعة في القرية التي يلفها الضباب حتى في آب اللهاب، اجترحت مجموعة ”الجن الأزرق“ المعجزات بإمكانات بسيطة.

دوّخت تلك المجموعة العدو في أعالي جبل الريحان بأكثر من عشرين عملية نوعية، وكان أحد أفرادها قبل هدم بيوت سُجُد بالكامل عام ١٩٨٥ قد احتفظ في ردهة بيته بـ١٧ خوذة لجنود إسرائيليين اصطادوهم في أحد الكمائن. تفرّقت اليوم مجموعة ”الجنّ الأزرق“ طرق شتى، مات حسن ن بنوبة قلبية بعد أن قرّت عينه بتحرير سُجُد وجبل عامل عام ٢٠٠٠، وهاجر بعضها الآخر، وبقي منها من يحدّق في فلسطين بعد أن جاوز الستين من العمر، يحكي لأحفاده حكايات عن الرجال والبنادق، عن حسن ن الذي قاد بنفسه عملية تحرير موقع سُجُد عام ١٩٨٧، تلك العملية الأولى المصورة للمقاومة الإسلامية التي حملت إلى جانب المقاومة الفلسطينية والوطنية لواء تحرير الأرض واستعادة الحقوق، رجال رابطوا على تخوم فلسطين، هم منها وهي منهم.

طلائع المقاومة في كشافة الرسالة الإسلامية. سجد، جنوب لبنان. ١٩٨٣. (أرشيف المقاومة اللبنانية)

طلائع المقاومة في كشافة الرسالة الإسلامية. سجد، جنوب لبنان. ١٩٨٣. (أرشيف المقاومة اللبنانية)

١- حين يفرك الجوز 

خرجنا من عتليت بصفقة التبادل التي أنجزها أحمد جبريل. كان أبو علي فرحات ضمن فئة قليلة رفضت أن تلقي السلاح في «اللويزة». حفر لنفسه مغارة سمّاها ”القصر“: خمسة رجال بمعاولهم حفروا الخندق في الصخر وضلّلوا جيش الاحتلال على الجهاز اللاسلكي: كلما ذُكرت المغارة ظنّ الطيران أنّه القصر المهجور على أطراف اللويزة، ليدكه دكّاً بالقازانات، وأبو علي يضحك في مغارته التي كان أقصى الترف فيها مرطبانان من الحلاوة، إلى جانب البنادق القليلة، وإذا أرسلت الحاجة أم علي الوحيدة المتبقية في اللويزة لكَنْ طبخة البرغل على حمص الذي كان أحياناً يخردقه رصاص القنص القادم من أعلى جبل الرفيع، فذلك يوم السعد. ”ماذا تريد يا حيدر؟“سألني أبو علي في ذلك اليوم من ربيع ١٩٨٦. ”أريد أن نقتحم موقع سُجُد، وأن أستردّ بارودة نعيم“. تذكرت في عتليت قصّة روتها لي والدتي: كان للفرنسيين قاطع طريق اسمه عيد الكفوري يأخذ خوّة من القرى بأكملها، من المروانية حتى سُجُد، ليرة ذهب عن كل بيت. وصل عيد الكفوري في ذلك اليوم إلى بلاطة الحاج نجيب في سُجُد، ونزل اثنان من رجاله إلى البيوت، حتى وصلا منزل نعيم. عاد نعيم للتو من بلاد العم سام، ”ما لايمو الهوا“، ولم تغره نظرات الحسناء التي كانت تحدّجه بعينيها قرب مرفأ نيويورك حين كان يقف في حلبة الملاكمة ويتصارع مع الطليان واليونانيين. أخذ أول سفينة نحو الإسكندرية ومن هناك اشترى فرساً جالت به فلسطين كلها لتعيده إلى أعالي جبل الريحان. ”أين ليرة الذهب؟“صرخ به الرجلان. بضربة واحدة أوثق نعيم الرجلَين إلى فرسه، وسحبهما حتى بيت أخيه وأطلق الرصاص على الكفوري فأصابه في رِجله. ”ما بتاخد فرنك من سُجُد طول ما نعيم فيه بوجهه شنب“.

تذكرت في عتليت قصّة روتها لي والدتي: كان للفرنسيين قاطع طريق اسمه عيد الكفوري يأخذ خوّة من القرى بأكملها، من المروانية حتى سُجُد، ليرة ذهب عن كل بيت.

لم يعد عيد الكفوري إلى سُجُد من يومها، ونعيم الذي حذّره أخوه من مداهمة قريبة للجندرمة، خبّأ البارودة في مقام سُجُد، في الدهليز المسمى أمّ النبي. ضحك أبو علي فرحات حين سمع القصة: ”يا حيدر، لم تبلغ العشرين بعد، انتظر حتى يفرك الجوز“. مرّت أشهر بعدها، كنّا بصحبة قريبنا الصيرفي، الحاج هاني، عند صيرفي آخر في صيدا. وصلت رسالة بالفاكس من أبي علي فرحات: ”إلى هاني ن، ومنه لحيدر ن: فرك الجوز“. تركتُ صيدا مباشرة مع ثلاثة من رفاقي، وبالتاكسي إلى جرنايا. ابن عمنا أيوب على حاجز لفصيل آخر: ”لوين رايحين أولاد العم؟“، ”على سُجُد، رح جبلك شتلة من حبقة إم طلال. دمعت عينا أيوب على مسكبة أمه التي هدّمها الاحتلال مع كل بيوت سُجُد عام ١٩٨٥، وأعطى الأوامر أن تمر سيارة التاكسي.

صورة أرشيفية بالأبيض والأسود من اقتحام المجاهدين في المقاومة الإسلامية لموقع سجد جنوب لبنان سنة ١٩٨٧، ضمن عملية "بدر الكبرى".

صورة أرشيفية من اقتحام المجاهدين في المقاومة الإسلامية لموقع سجد جنوب لبنان سنة ١٩٨٦، ضمن عملية "بدر الكبرى"، حينما شنّت المقاومة هجوماً واسعاً على قوات الاحتلال وجيش لحد وسيطرت على عدّة مواقع معادية في جبل صافي وجزّين. (أرشيف المقاومة الإسلامية)

٢- الطبشورة والرسام

كانوا أكثر من مئتي شاب في مدرسة اللويزة، ومعهم السيد عباس الموسوي. أمر العمليات كان واضحاً لا لبس فيه: ”سنقتحم ونحتلّ“، ونقلب الطاولة على الإسرائيليّ وعملائه: مجموعة تقتحم موقع الرادار في أعلى جبل صافي، وأخرى تقتحم موقع بئر كلّاب بين عرمتى والريحان، ومجموعة تقطع الطريق بين الريحان وسُجُد عند ”مرج الخوخة“، ثم نظر أبو علي فرحات إليّ وغمزني: ومجموعة تقتحم موقع النبي سُجُد. كنت أحفظ المقام عن ظهر قلب، أمي أخبرتني حين كان يزوره اليهود قبل النكبة في أيّار، تؤجرهم القرية التراريح والفرش وتقطع لهم النسوة أكياس اللبنة، وترسل لهم من يوقد النار في السبت، ويؤجرهم المختار الفرس بربع ليرة للجولة على البركة، ويغني لهم أهل القرية: ”بدار النبي عملوا هالطوشة/عشان الفلفلة والمردشوشة/قال العزابي بشلح طربوشي/ والعندو بنت يرحل من هونا“. باحة كبيرة فيها آبار أربعة كان أهل سُجُد والجوار يدبكون فيها ”ديك وفرخة“، وكنت حين أمازح أبا علي فرحات أذكره بأغنية للحاجة مناهل: ”يا سُجُد يا ابن يعقوب، يلي بدارك جميّزة، يقطع سيّاد الريحان وكفّي عأهل اللويزة“ فيضحك من قلبه، ومبانٍ ثلاثة: الأول إلى جهة الغرب، الباحة فيه قنطرة وعقد حجري يوزّع على غرفتين إلى اليمين واثنتين إلى اليسار، مبنيّ بأكمله فوق خندق سفلي عميق. المبنى الآخر إلى جهة الشمال، وهو الجهة الأضعف، يرتفع قربه جدار شاهق، وتقع قربه حمّامات المقام، من نبع الطاسة صعوداً كان يمكننا الوصول إلى أقرب تلة تشرف عليه بالنار. من جهة الجنوب المبنى الثالث والأصعب، هنا يرقد سُجُد ابن يعقوب، إلى جوار أمه، في غرفة من طابقين أقرب إلى دهاليز الأساطير، إذ يفصل نصف حائط بين الابن والأم وتحتهما الغرفة التي نامت فيها بندقية نعيم التي كرسحت الكفوري. 

كنت أحفظ المقام عن ظهر قلب، أمي أخبرتني حين كان يزوره اليهود قبل النكبة في أيّار، تؤجرهم القرية التراريح والفرش وتقطع لهم النسوة أكياس اللبنة، وترسل لهم من يوقد النار في السبت، ويؤجّرهم المختار الفرس بربع ليرة للجولة على البركة، ويغي لهم أهل القرية: ”بدار النبي عملوا هالطوشة/ عشان الفلفلة والمردشوشة/ قال العزابي بشلح طربوشي/ والعندو بنت يرحل من هونا“.

رسمتُ المقام بالطبشور كما لو كنت أستعيد كل شقاوة في طفولتي، وألعاب الغميضة على كل صخرة، ومعايرة الجبناء من أترابي ممن كانوا لا يجرؤون على تسلق السلم، حيث تنجلي الرؤية من على سطح المقام حتى صيدا غرباً وفلسطين جنوباً كمن يحدق من طائرة بالأرض. أخبرنا الكشّاف أن جيش الاحتلال قد حلق مسافة ٣٠ متراً من الأشجار وزنّر المقام بأكمله بالأسلاك الشائكة. ”سنكون ثلاثة مجموعات، الأولى مجموعة الإسناد من عشرين رجلاً على التلة الشمالية المقابلة، ومجموعة من خمسة رجال مع رشاش ٥٠٠ للتصدي للهليكوبتر، ومجموعة معي تقتحم من جهة الحمامات“. حسناً، خذ خمسة من الإخوان إذن، قال المشارك في التخطيط إلى جانبي. أوجست خيفة في نفسي إذ كنت بالحدس أعرف أن عدد المجموعة المقتحمة قليل، وما رسمه الفنان بالطبشور على اللوح في مدرسة اللويزة، لا بد ستخبئ له الأرض نشازاً ما يعكر صفو اللوحة… فلننتظر ساعة الصفر.

حسن ن ورفيقه عند نهر الخرخار في سجد، جنوب لبنان.

الشهيد سالم عبّود، قائد عمليات جبل الريحان مع رفيقه عند نهر الزهراني. إقليم التفاح، جنوب لبنان. ١٩٩٦. (أرشيف المقاومة الإسلامية)

٣- ذهاب وإياب من سُجُد إلى عتليت

أيام اعتقالي الأول لم يثبت شيء عليّ. استعار صديق لي سيارتي فأوقفه حاجز للعملاء أول العيشية. استدرجونا لتخليص السيارة ووجدنا أنفسنا في مرجعيون. ٢٠ يوماً أسعفني فيها شعري الأشقر المكزبر وإصراري على أنني لا علاقة لي بأي عمل عسكري في منطقة جبل الريحان. أفرجوا عني لعدم ثبوت أي شبهة بالتخريب، وبعد عشرين يوماً في بيروت، كان لا بد من العودة إلى سُجُد عن طريق باتر. درست في دير مشموشة في صغري وكانت الراهبة تأخذنا ”marche“ يوم الجمعة فحفظت الناحية عن ظهر قلب. سننزل على حاجز باتر ونتوغّل، مشينا حتى بنواتي ومن هناك يقلّنا قريب لنا إلى جزين فنتدبّر أمرنا إلى سُجُد. استحسن أخي علي وأولاد عمي الاثنان الفكرة، توغلنا قليلاً في الأحراج حتى عثرنا وقد هدّنا التعب على مشحرة في طرف بنواتي، وقدّم لنا الرجل الذي يشتغل بالفحم شاياً ما زالت طعمته على طرف لساني. دلّنا على بيت قريبنا الذي نمنا في بيته، ووعدنا أن يقلنا بالسيارة في الصباح، ولعلّةٍ ما لم نجده على الموعد

أخذونا إلى الخيام وأفزعت هيئتنا حتى السجانين. وضعوني في الزنزانة رقم ١٣ ووضعوا أخي في الزنزانة رقم ٢٢ الأصغر حجماً والمعدّة للأشقياء من المخربين. كانت نوبة سجّان من مرجعيون، اقترب من الـ٢٢ فهمس به علي من الداخل: ”مش رح تدوم إسرائيل إلكم، بس نضهر من هون نحنا منفرجيكم“.

وصلنا الى أول طريق قرية صباح في قضاء جزين لنجد صفّاً من البنادق موجهاً إلينا. سيارات الاستخبارات وكتيبة كاملة من جيش العملاء، مباشرة إلى قبو جان بيرتي. كان جان بيرتي ورجاله أشبه بمصارعين يحملون كابلات الكهرباء وبدأوا بجَلدنا بنشوة أشبه بفرحة الكانيباليين برائحة الدم ومذاقه. لم ”آكل قتل“ في حياتي كما في مثل ذلك اليوم، رغم أننا لم نكن مسلحين. كان مع قريبي إخراج قيد باسم مزوّر، إلا أنه نسي أن يبدل الاسم على الصورة من الخلف. جنّ جنون بيرتي ورفاقه ووضعوا المسدس في فم أحدنا، وقال أفصحوا عن هوياتكم، سيتوقف القتل فوراً ونسلّمكم للمخابرات.

صورة أرشيفية للشيخ الشهيد راغب حرب بين أهله ومحبيه بعد إطلاق سراحه من مركز مخابرات صور سنة ١٩٨٤.

الشيخ الشهيد راغب حرب بين أهله ومحبّيه بعد إطلاق سراحه من مركز المخابرات في صور بفعل الضغط الشعبي وذلك في ١٩٨٤، سنة "القبضة الحديدية" في جبل عامل والتي ردّت عليها المقاومة بـ"القبضة الحسينية". صور، لبنان. مطلع ١٩٨٤. (أرشيف المقاومة الإسلامية)

أخذونا إلى الخيام وأفزعت هيئتنا حتى السجانين. وضعوني في الزنزانة رقم ١٣ ووضعوا أخي في الزنزانة رقم ٢٢ الأصغر حجماً والمعدّة للأشقياء من المخربين. كانت نوبة سجّان من مرجعيون، اقترب من الـ٢٢ فهمس به علي من الداخل: ”مش رح تدوم إسرائيل إلكم، بس نضهر من هون نحنا منفرجيكم“. ارتعد السجّان وجاء في الليل لعلي: ”أنا مغلوب على أمري، شو بدّك؟“، – ”بدي اتحمم“، استحممنا جميعاً ونمنا كالأمراء ذاك المساء. من بعدها أخذونا مربوطي الأيدي، معصوبي الرؤوس ونياماً في أرض البولمان إلى عتليت. تشاجر علي كالعادة مع موزّع الطعام، كان هذا الأخير من العملاء الذين دسهم العدو بيننا، إلا أنّ علي أمسكه من عنقه حين لاحظ أنه يوزع علينا الفاصوليا المعفنة ويحتفظ لنفسه بقرط كامل من الموز. أخذوا علي إلى الإفرادي وظننت أنني فقدت أخي إلى الأبد. بعد أسبوعين استدعونا إلى المعسكر فوجدنا الصليب الأحمر بانتظارنا. مبروك… إفراج… أين علي؟ صرخت. دقّق الصليب الأحمر في القائمة وقال: مبروك هو أيضاً سيخرج. وأنا أنظر إلى اسم علي، كانت بارودة نعيم في غرفة أم النبي تبرق في خاطري، دخلت عتليت أعزل وخرجت ببندقية.

عرف العدو في التاسعة بسقوط الموقع فجنّ جنونه. (...) أطلّ الطيران المروحي فقمنا بتشغيل أربع رشاشات ٥٠٠ كانت في الدشم، فانسحب المروحي ثم عاد وظن أن القوات الملتفة من الكروم هي مجموعاتنا، ”فرمهم فرم“.

٤- بارودة نعيم

نمنا يومين في مدرسة اللويزة، وفي اليوم الثالث أطعمنا السيد عباس الموسوي الطعام بيده، ”على بركة الله“. انطلقنا قبل منتصف الليل بقليل، حين مدت لنا سُجُد بضبابها وسبقتنا المجموعة التي ستقطع طريق المروج بين الريحان وسُجُد. الثانية بعد منتصف الليل، كنا على تخوم التلة المواجهة حيث ستتركز مجموعة الإسناد، حين بدأنا بسماع أصواتهم. أخرجوا دبابة لتطلق قذيفتين على جرجوع وعربصاليم، وكأنهم حدسوا بأن شيئاً ما يخفيه ذلك الليل الجنوبي العميق. تمركزت مجموعة الإسناد والـ٥٠٠ على التلة، وتقدمت مجموعة الهندسة لقص الأسلاك من جهة حمامات المقام، لحقتها مجموعتي المكونة من خمسة أفراد، لتقع المفاجأة. كان العدو قد رفع الدشم وأغلق مداخل المباني الثلاثة ببوابات الحديد، ثم حدثت المفاجأة الأخرى، دستُ على الكلب النائم قرب الحمام فألقمته طلقة قبل أن يفضح أمرنا برمتّه. طلبت من مجموعة الإسناد أن توافينا بخمسة عشر رجلاً على الفور، وفي أول الفجر كنّا في قلب الباحة: خمسة دقائق كأنها الدهر، ”درزناهم درز“. جندلنا أحدَهم على السلَّم، وركض اثنان باتجاه القنطرة الحجرية فرمى قنبلة يدوية في الداخل وانبطح يطلق الرصاص من على العتبة. كنت قد أشرت لكل مقاوم أين يتجه، وقلت: ”أنا أدخل إلى أم النبي“. خرج لي جندي من الداخل أخذ مني مشطاً كاملاً من الرصاص، ”أخو الشليتة كل ما قوصو يرجع يقوم“. 

الشهيد سمير مطّوط، واسمه الجهادي "جواد"، يقود ملالة صهيونيّة أسرتها المقاومة ضمن "عملية الأسيرين" في كونين، وهي أول عملية أسر ناجحة. الجنوب، لبنان. ١٩٨٦. (أرشيف المقاومة الإسلامية)

الشهيد سمير مطّوط، واسمه الجهادي "جواد"، يقود ملالة صهيونيّة أسرتها المقاومة ضمن "عملية الأسيرين" في كونين، وهي أول عملية أسر ناجحة. يُحكى أنّ المقاومين جابوا ضاحية بيروت الجنوبية بالملالة و"خمّسوها"، فجُنَّ جنون العدو لدى علمه. الجنوب، لبنان. ١٩٨٦. (أرشيف المقاومة الإسلامية)

صعد سمير مطوط إلى السطح، ثم نزل واعتلى الدبابة وألقى قنبلة في مقصورة القيادة قبل أن يقفز من على ظهرها، وآخر قاد الملالة الـm113 إلى التلة التي كان العدو يرمي منها على القرى الجنوبية، وبومرها وتركها تتدحرج من أعلى الجبل، أردناها أن تصل للنهر فعلقت في شجرة وبقيت دايرة ”حتى خلصت بطاريتها“. عرف العدو في التاسعة بسقوط الموقع فجنّ جنونه. حاولت مجموعاته التقدم مرتين من جهة المروج فصدّته المجموعة المرابطة هناك، حاول أن يلتف من جهة كروم الريحان. أطلّ الطيران المروحي فقمنا بتشغيل أربع رشاشات ٥٠٠ كانت في الدشم، فانسحب المروحي ثم عاد وظن أن القوات الملتفة من الكروم هي مجموعاتنا، ”فرمهم فرم“. 

غلبني النعاس عند الخرخار في عربصاليم، ما بين الغفو واليقظة، رأيت رجلاً مفتول الشاربين، يقترب مني. تقول أمي أن نعيم كان رجلاً، اختلط صوت خرير النهر بصوته الأجش ”طول ما في بوجهي شوارب، لن يكون على تلة سُجُد محتل“. 

جاء الأمر بالانسحاب بعد أن نجحت العمليات الثلاث، ولم يسقط لنا ولو جريح في سُجُد بينما استشهد إبراهيم الحاج ورفاقه في بئر كلاب واستشهدت مجموعة من الأخوان بقذيفة دبابة على مدخل موقع الرادار. ألقيت بنظرة مودعة على بيوت سُجُد التي دمرها الصهاينة عن آخرها، بيت الحاجة أم مهدي، وبلاطة أيوب وقبو الحجّة عفيفة وطربون الحبق لأيوب من على مسكبة أمه المهدمة. أخذنا طريق عين عقماتا وانسحبنا نزولاً حتى نبع الطاسة، جلسنا للراحة في غرفة الموتيرات، وانتابني حدس أن الطيران المروحي سيرد لنا الطعنة. أمرت المجموعة بالنزول إلى عربصاليم من النهر، وخلال دقائق قليلة كان الطيران يغير على الغرفة. غلبني النعاس عند الخرخار في عربصاليم، ما بين الغفو واليقظة، رأيت رجلاً مفتول الشاربين، يقترب مني. تقول أمي أن نعيم كان رجلاً، اختلط صوت خرير النهر بصوته الأجش ”طول ما في بوجهي شوارب، لن يكون على تلة سُجُد محتل“. أخذ نعيم بارودته من كتفي وغاب في الضباب.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.