Main Content
Painting of two lovers

"الحبيبين"، بين حوالي 1630 وحوالي 1640، رسام مجهول الهوية. (معهد مينيابوليس للفنون)

قبول مكتوم: مجتمع الميم في التاريخ الإسلامي

تمّت كتابة النصّ ومن ثم ترجمته في وقت اشتدّت خلاله الاعتداءات الممنهجة على أفراد مجتمع الميم في الولايات المتحدّة والعالم العربيّ، لا سيّما لبنان، حيث اجتمعت اليمينيّة الفاشيّة المحافظة بأقطابها المختلفة على أبلسة مجتمع الميم وتعنيفه والحشد ضدّه. تكمن الضرورة في الإصغاء للصمت الكامن في تاريخنا الحضاريّ وتقفّي صداه المخنوق طويلاً. نقدّم في المقالة أدناه تأويلاً مغايراً للتاريخ الاجتماعيّ للإسلام، ودعوة لمواصلة إنتاج المعرفة النقديّة غير المتماهية مع قيم الحداثة الأورو-مركزية.

شكّل الاستعمار، بمعنى استرقاق الشعوب ونهب ثرواتها، قاعدة الحداثة. وقدّ كرّست مختلف أشكال الإقصاء والمحو "النظامَ العالميّ الحديث"، أي النظام الاستعماريّ الرأسماليّ الأبويّ، ومركزيّته غربيّة مسيحيّة، بحسب رامون غروسفوغيل، عالم اجتماع بويرتوريكيّ. أنتجت الحداثة أنماط هيمنة معرفيّة مرتكزة على العنصريّة الإقصائيّة ومبرّرة للاستعلاء والسيطرة الاستعماريّة. من هنا، يمكن استنباط بعدَين لنزع الاستعمار، الأول تحرريّ ماديّ، والثاني معرفيّ، قلّ نظيره في الأكاديميا العربيّة.

فيما يلي، نقدّم ترجمة عربيّة لنص يشتبك مع البعد الثاني من خلال إعادة قراءة تاريخ الإسلام الاجتماعيّ ليتجاوز الخطاب المعرفي المهيمن. يتناول الكاتب تاريخ المثلية الجنسية والتنوع الجندريّ في المجتمعات الإسلاميّة، فيحدّد دور الكولونياليّة في تحويل الخطاب الإسلامي من متقبّل ومتسامح إلى آخر مناهض وكاره لمجتمع الميم.


تحولت الهيئات الإداريّة المدرسيّة خلال الأسابيع الأخيرة، وذلك في جميع أنحاء الولايات المتّحدة إلى ميدان صراعٍ مفتوح. نُظّمَت تظاهرات معادية للعابرات والعابرين جنسيّاً وللمثليّين/ات، مصحوبة بدعوات لمنع بعض الكتب ذات المحتوى الكويري؛ المُتصوّر كما الفعلي ضمن التعليم. في بعض الحالات انضمّت بعض الجاليات المحافظة والمجموعات الدينيّة إلى هذه التحركات. كذلك صرّح مسلمون في ديربورن، ماريلاند ومناطق أخرى، بأنّ وجود المحتوى الكويري ضمن المناهج التعليميّة يمثل انتهاكًا لحريّتهم الدينيّة.

‎يمكن للقيادات الدينية أن تتحدّث عن معتقداتها الشخصيّة كما تشاء، لكنّ خطابها هذا بعيدٌ كل البعد عن تمثيل التاريخ الإسلامي المعقّد أو التعبير بدقة عن الفكر الإسلامي.

للعالم الإسلاميّ تاريخ طويل من عدم الامتثال للتصنيفات الجندريّة والحبّ الكويريّ والتنوع في التعبير الجندري. ففي الواقع، وخلال معظم حقبات التاريخ الإسلامي، وُجد قدر كبير من التسامح مع التعبيرات الجندريّة المتنوعة وحتى عن الشبق المثليّ.

‎وفي حين أنّ تقليد ممارسات الجنس الآخر مكروهٌ في الشرع الإسلاميّ، أي على سبيل السخرية أو التقليد، إلا أنّه أتاح مساحة وتكيّفًا للأفراد الذين يحملون خُلقيّاً صفات تعتبر مغايرة لما يغلب على سائر جنسهم. وقد كتب النوويّ، أحد فقهاء القرن الـ١٣: "قال العلماء، المخنّث ضربان: أحدهما من خلق كذلك، ولم يتكلّف التخلّق بأخلاق النساء، وزيهنّ، وكلامهنّ، وحركاتهنّ، بل هو خلقة خلقها الله عليها فهذا لا ذمّ عليه، ولا عتب، ولا إثم ولا عقوبة."

إن التمييز بين سلوكٍ جندريٍّ متصنّع وآخر طبيعيّ يعكس واقعاً تاريخيّاً معيّناً: يمثل الأشخاص الذين لا يتطابقون مع التصنيف الجندري [المهيمن] جزءًا من التاريخ الإسلاميّ منذ بدايته.

‎يوثق كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني حياة عدة أفرادٍ من بينهم "طويس" الذي عاش في أواخر حياة النبي محمد، وبداية الدولة الإسلامية. كان طويس من فئةٍ يطلق عليها حينها "المخنّثون"، أي أولئك الذين يولدون ذكوراً، ولكنهم يقدِّمون أنفسهم كإناث. وكما وصفهم الأصفهاني: كانوا يرتدون الأساور ويزينون أيديهم بالحنّاء، ويرتدون ملابس النساء. حتى أن "هيت" المخنّث كان يدخل على نساء النبي محمد في بيته.

‎إن التمييز بين سلوكٍ جندريٍّ متصنّع وآخر طبيعيّ يعكس واقعاً تاريخيّاً معيّناً: يمثل الأشخاص الذين لا يتطابقون مع التصنيف الجندري [المهيمن] جزءًا من التاريخ الإسلاميّ منذ بدايته.

‎كان طويس موسيقياً يعزف للزبائن وللحكام المسلمين. وعندما عُيّن يحيى بن الحكم والياً، شارك طويس في الاحتفالات مرتدياً ملابس مبهرجة ومتجمل الوجه. وحين سأله الوالي إن كان مسلماً أجابه طويس مؤكداً إيمانه وبأنّه يصوم رمضان ويؤدي الصلوات الخمس. بعبارةٍ أخرى، نفهم من الأصفهاني الذي وثّق حياة عددٍ من المخنّثين، بأنّه لا يوجد تناقضٌ بين تعبير طويس الجندريّ والتزامه بالإسلام. في كتاب الأصفهاني نقرأ عن "مخنثين" آخرين مثل الدلال، ابن سريج، والغريض، الذين عاشوا حياةً حافلة في المجتمعات المسلمة الأولى. واللافت أننّا لا نجد في مدوّنات الأصفهاني أي شكلٍ من الاضطهاد أو العقوبات التي مارستها الدولة آنذاك عليهم، بل وعلى العكس، كان المخنّثون جزءاً معترفاً به من النسيج الاجتماعي.

Two of The Maqamat’s characters, al-Harith and the narrator and traveler Abu Zayd, bid each other farewell before the pilgrimage.

اثنان من شخصيات المقامات، الحارث والراوي والرحالة أبو زيد، يودعان بعضهما البعض قبل الحج. (مصدر فني، إريك ليسينج، المكتبة الوطنية الفرنسية)

في عصر الخلافة العباسية، أصبح العديد من المخنّثين أصدقاء للخليفة ومن بطانته المقرّبة. عرفوا بحكمتهم ومعرفتهم الواسعة في الفنون الموسيقية والشعر والفلك، وكان لا يكتمل بلاطُ الحكم من دون أحدهم. وبحسب ابن منصور العابي، أصبح المخنّثون جزءاً قيّماً خلال الحكم العباسي حتى أنّ أحدهم قال متفاخراً: "نحن أفضل الناس، حين نتحدث تضحكون؛ وحين نغني تطربون؛ وحين نستلقي تمتطوننا."

على مرّ التاريخ الإسلامي - من شمال أفريقيا إلى جنوب آسيا - كان هناك قبولٌ واسعٌ للأفراد الكويريين والذين لا يمتثلون للأدوار الجندرية المهيمنة، ولم تكن مجرد حالات فردية.

‎في الفترات المتأخرة من عهد الإمبراطورية العثمانية، كان هناك من يسمّون بالـ “کوچك" (Köçek)، وهم ذكورٌ يرتدون ملابس النساء ويؤدون رقصاتٍ استعراضية خلال المهرجانات. كانوا يتلقون تدريباتٍ رسميةٍ على الرقص والآلات الإيقاعية، وقد أصبحوا جزءًا مهماً في الفعاليات الاجتماعية. ظهرت ممارسة مشابهة في مصر: الخوّالون (الخوّال)، وهم راقصون ذكور يرتدون الفساتين ويتزينون بالحنّاء ومساحيق التجميل. ومثل نظرائهم العثمانيين، كانوا يقومون بأداء استعراضاتٍ فنيةٍ خلال المناسبات الاجتماعية.

‎أما في جنوب آسيا، فكانت ظاهرة الـ “هجرة"، وهم أفراد من الجنس الثالث. يُستخدم هذا المصطلح للدلالة على الأفراد ثنائيي الجنس، وعلى النساء العابرات. وقد ثبت وجود أفراد الـ “هجرة" في المجتمعات المسلمة الأولى في جنوب آسيا. بحسب الباحثة ناليني آير، كان أفرادها في كثير من الأحيان يعملون كمدبرين للمنازل، كما شغلوا مناصب استشارية مهمة.

‎أما في العراق، فـ "المسترجل" هو فردٌ يولد كأنثى لكنّه يقدم نفسه كذكر. يذكر ويلفريد ثيسجر في كتابه "عرب الأهوار" قول دليله المرشد "عمارة": "المسترجل يولد امرأة. ليس بيدها حيلة، خلقت هكذا؛ لكن لديها قلب رجل، لذا فهي تعيش كرجل". وعندما سأل عمارة عما إذا كان المسترجل مقبولاً، أجاب: "بالتأكيد. نتناول الطعام معها ويمكنها أن تجلس في المضيف". 

أما في الوقت الحالي وحتى في دولة إسلامية مثل إيران فإنّ تغيير الجنس قانوني ولا يعتبر من المحرمات استنادا" للفتوى التي أصدرها آية الله الخميني عام 1983 ومنحت المتحولين جنسيا" الحرية التي ينعمون بها في البلاد. عملية التحول الجنسي مسموحة في إيران على عكس البلدان الإسلامية الأخرى، ويجوز إجراؤها علی الأشخاص الذين تم قبولهم في المقابلات النفسية وتسمّى عملية "إصلاح الجنس" أو "إعادة تحديد الجنس"، أو العبور الجنسي.  آية الله الخميني لعب دوراً متقدما بإصدار فتوى دينية اعتبر فيها تغيير الجنس لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية قائلا إن المتحولين جنسيا" تماما" كالمرضى يحتاجون الى شفاء من مرضهم. كما تقدم الدولة قروضا دون فوائد لغير القادرين على تحمّل كلفة العملية وتساهم في كثير من الحالات بنصف التكلفة.

‎تنعكس تعقيدات المفاهيم الجندرية على الفقه الإسلامي نفسه، حيث إنّ معظم المذاهب الفقهية والعلماء المسلمين يأخذونها بعين الاعتبار. فالفتاوى والنصوص الفقهية تتضمن مصطلح "الخُنْثَى"، أي الأشخاص ذوي الهويات الجنسية غير الواضحة و/أو ثنائيي الجنس، فضلاً عن المخنّثين. كما تشير التنظيمات المتعلقة بالميراث والصلاة والواجبات الدينية إلى أنّ ارتياح العلماء المسلمين في التعامل مع الغموض الجندري كان أكثر مما يظنّ البعض. 

على مرّ التاريخ الإسلامي - من شمال أفريقيا إلى جنوب آسيا - كان هناك قبولٌ واسعٌ للأفراد الكويريين والذين لا يمتثلون للأدوار الجندرية المهيمنة، ولم تكن مجرد حالات فردية.

قامت المؤرخة إنديرا جيسينك بتحليل ٤١ مصدراً طبياً وفقهياً بين القرنين الثامن والثامن عشر وخلصت إلى أنّ خطاب "الثنائية الجنسية" يعود إلى تصور تأريخي غير دقيق. تشير جيسينك إلى أنّ الخليل بن أحمد في معجمه وهو من أقدم معاجم اللغة العربية، في القرن الثامن، اقترح أن يُخاطب الشخص ثنائي الجنس الذي يقدم نفسه كذكر بـ “خنث"، وثنائي الجنس الذي يقدم نفسه كأنثى بـ"خِناث"، وهو يستخدم تسمية "خَناثَة" للرجل الذي يظهر بمظهر أنثوي. وهذا بمثابة اعترافٍ واضح بوجود طيفٍ من التعبيرات الجنسية والجندرية والرغبة بمخاطبة الأشخاص باحترام وفقاً لكيفية تقديمهم لأنفسهم.

هذا التسامح تجاه الغموض الجندري وعدم الامتثال للأدوار الجنسية المهيمنة الذي نراه في الثقافات الإسلامية يتزامن مع قبولٍ أوسع لفكرة الاشتهاء الجنسي المثلي. تشير نصوص مثل "جوامع اللذة" لعلي ابن ناصر الكاتب، وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الإصفهاني، و"نزهة الألباب" للتونسي أحمد التيفاشي على انتشار قبول الرغبة المثلية كأمر طبيعي. لقد كانت هذه الرغبة عنصراً مشتركاً نجده في الكثير من الأشعار الفارسية والعربية، وعلى وجه الخصوص الحديث عن اشتهاء الغلمان أو الشباب من الذكور. من أبي نواس إلى الرومي، ومن ابن عمار إلى أمير خسرو، فقد ألّف بعض أعظم شعراء العالم الإسلامي أبياتاً لعشاقهم من الذكور. كما احتفى الشعراء علنا بالحب الكويري.

لم يكن الشعراء وحدهم من عظّم شأن الحب المثلي وعدم الامتثال إلى التصنيفات الجندرية المهيمنة، بل قام بذلك الحكام المسلمون أنفسهم أيضاً. كتب الخليفة العباسي الأمين شعراً غزلياً لحبيبته كوثر، التي عرفت بثنائيتها الجنسية و/أو عدم امتثالها للتصنيفات الجندرية السائدة.

‎وبحسب سحر عامر، خططت الملكة الأم "زبيدة"، والتي كانت قلقة من عدم رؤيتها لأحفادٍ من ابنها الخليفة، لجعل شابات البلاط يرتدين ملابس الرجال. وبتنَ يُعرفنَ بـ "الغلامية" وأصبحن خليلات الخليفة المفضّلات، كما انتشرت النساء اللواتي يظهرن بمظهر ذكوري في سائر البلاط ودور الحكم العباسية.

‎بالمثل، في الأندلس كانت زوجة الحَكَم الثاني [المستنصر بالله] تظهر بمظهر الذكور فترتدي ملابسهم وحملت اسم "جعفر". كما عاش المعتمد، خليفة إشبيلية، علاقة حبٍ هائجة مع وزيره، الشاعر ابن عمار.

‎على مر القرون، كان هناك العديد من الحكام المسلمين الذين أحبوا الرجال علناً، من محمود الغزنوي إلى الإمبراطور المغولي بابر.

‎كان قبول الرغبة المثلية وعدم الامتثال للأدوار الجندرية السائدة سمةً مميزة للمجتمعات الإسلامية إلى درجة أن الرحالة الأوروبيين كان يشيرون إليها بسخريةٍ في كتاباتهم. في القرن التاسع عشر، كتب إدوارد لين عن الخَوَالين: 

‎"هم مسلمون من أهل مصر. ونظراً لتجسيدهم أدواراً نسائية، فإنّ رقصاتهم تشبه تماماً رقصات الغوازي، وبنفس الطريقة ترافقها أصوات الصناجات."

كما كتب تشارلز سيجيزبرت سونيني بامتعاضٍ عن ثقافة الاشتهاء المثليّ في العالم الإسلامي:

‎"هذه الشهوة التي لا يمكن بشكلٍ تصورها والتي أفسدت الإغريق والفرس القدماء، هي ملذة المصريين، أو بعبارةٍ أصح، هي قبحهم. لا من أجل نسائهنّ تؤلف الأغاني، ولا عليهنّ تبذل اللمسات الحانية. أمورٌ مختلفة تماماً هي التي تثير شهواتهم."

Two lovers, the woman making burn marks on the man's arm as an indication of devotion and loyalty.

"حبيبين"، المرأة تصنع علامات الحروق على ذراع الرجل كدليل على الإخلاص والولاء. أصفهان، إيران. أفضل الحسيني، العصر الصفوي، 1648. (حقوق الصورة  لصور من التاريخ.)

في رحلاته خلال القرن التاسع عشر ميلادي، التقى جيمس سيلك بكنجهام درويشاً أفغانياً يبكي فراق حبيبه. وكان الدرويش الصوفي إسماعيل، مستغرباً من ندرة الحب المثلي في أوروبا. وقد وصف بكنجهام الحب العميق بين إسماعيل وحبيبه قائلاً: "على الرغم من أنهما جسدين منفصلين، لكنّ روحهما أصبحت واحدة."

‎وقد لاحظ علماء الأنثروبولوجيا في منتصف القرن العشرين انتشار وقبول الحب المثلي. كتبت جيل شيبرد: "في مومباسا، المثلية للذكور والإناث شائعة نسبياً بين المسلمين، شاملةً ربما واحداً من بين كل 25 بالغاً."

‎في القرن التاسع عشر، مع تزايد النفوذ الأوروبي في المنطقة، بدأت المعايير الجندرية تنحاز إلى المعايير الجندرية الأوروبية. تبنّى الحداثيون والإصلاحيون المسلمون تدريجياً القيم الفيكتورية كمعيارٍ للحداثة. وقد عبّر الإصلاحي المصري رفاعة الطهطاوي عن إعجابه بالفرنسيين، بسبب عدم ميلهم إلى حب الشبان والتغزل بهم في الأشعار، معتبراً بأنّها سلوكيات تتعارض مع أخلاقهم وصفاتهم "الحميدة". يعكس شعور الطهطاوي هذا، التوجهَ المتزايد لدى الإصلاحيين المسلمين نحو فكر أفرادٍ مثل تشارلز سونيني وغيره من الأوروبيين الذين كانوا يعتبرون التسامح وقبول التنوع الجنسي في العالم الإسلامي علامةً على التخلف.

من الواضح أنّ ما يُعدّ اليوم "فكراً جنسانياً محافظاً"، فيما يتعلق بعدم الامتثال للمعايير الجندرية والجنسانية المهيمنة في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقيم الأوروبية أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين أكثر مما هو مرتبطٌ بالمفاهيم الجنسانية الإسلامية.

‎أما اليوم، فإنّ الأصوات المسلمة المناهضة لحقوق مجتمع الميم، تتهم المثليين والكويريين بفرض مفهوم "غربي" أو إجبار الإسلام على التكيف مع "القيم الغربية" دون أن يدركوا المفارقة العجيبة لادعاءاتهم هذه: فالتحول الذي حصل خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كان في الحقيقة توافقاً واصطفافاً خلف القيم الاستعمارية على حساب القيم الإسلامية القديمة، مؤدياً في نهاية المطاف إلى التجريم القانوني. في الواقع، إنّ السمة المشتركة التي تجمع بين الدول التي تفرض تشريعاتٍ وقوانين معادية لمجتمع الميم ليست الإسلام، بل القانون الاستعماري. 

لدى بلدانٍ مسلمة مثل العراق ومصر وتونس تجربة استعمارية مشابهة لتلك التي مرّت بها دول مسيحية مثل إثيوبيا وأوغندا. في معظم الحالات، القوانين الحالية في هذه البلدان هي نفسها القوانين الجنائية التي خلّفها الاستعمار. على سبيل المثال، تعود قوانين مكافحة "اللواط" في تونس إلى القانون الجنائي الفرنسي لعام 1913، أما المادة 347 من قانون العقوبات في الكاميرون المسيحي فهي من القانون الاستعماري الفرنسي. الدولة العثمانية بدورها، تبنّت قوانين فرنسية، حظرت على أساسها الكوجك. العديد من التشريعات التي تجرم مجتمع الميم في معظم أرجاء العالم الإسلامي، هي بقايا مباشرة للقوانين الاستعمارية.

‎ إنّ تحوّل المنطقة واصطفافها خلف المعايير الجنسانية الأوروبية الاستعمارية، بلا شك قد حصل تدريجياً وخلال عدة أجيال، من خلال تحولاتٍ ثقافية وفرض القيود القانونية. وقد لاحظ الأنثروبولوجي ليندهولم في باكستان أنّ "العلاقات المثلية كانت أكثر شيوعاً قبل جيلٍ مضى مما هي عليه الآن، حيث أدى التأثير الغربي إلى خلق شعورٍ عام بالعار حيال المثلية الجنسية، على الأقل بين الطبقات الأكثر تعلماً."

وقد رصد الطبيبان النفسيان إحسان العيسى وبريجيتا العيسى، تحولاً مشابهاً في العراق خلال ستينيات القرن الماضي إذ يقولان: "إنّ القبول شبه الكامل للممارسات المثلية الذي كان موجوداً سابقاً، يخضع اليوم لبعض التغيرات. فقد أعرب بعض الطلاب الذين نشأوا على التقاليد القديمة عن قلقهم فيما يتعلق بممارساتهم المثلية في السكن الجامعي في بغداد".

من الواضح أنّ ما يُعدّ اليوم "فكراً جنسانياً محافظاً"، فيما يتعلق بعدم الامتثال للمعايير الجندرية والجنسانية المهيمنة في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقيم الأوروبية أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين أكثر مما هو مرتبطٌ بالمفاهيم الجنسانية الإسلامية.

‎على الرغم من ذلك، هناك جهد جماعي من قبل بعض المحافظين المسلمين لتصوير الفكر الإسلامي فيما يتعلق بقضايا الجنس وكأنّه واحد ومتجانس، مع إصرارٍ على تقديم تفسيرٍ واحدٍ للجنس والجنسانية لا يعترف بالمسلمين المثليين أو العابرين أو غير الممتثلين للتصنيف الجنسي الثنائي. لو كان صحيحاً بأنّ العالم الإسلامي قد نظر إلى المثليين وغير الممتثلين للأدوار الجنسية المهيمنة والعابرين بإدانة، وبشكل مستمر لا لبس فيه، فإنّ سرديتهم هذه تبدو غريبةً ومتناقضةً جداً مع التاريخ الغني والعميق لهذه الفئات خلال فترات الحكم الإسلامي.  

لا شك أن الغرض من هذه السردية يكمن في طمس تلك الحقبة التاريخيّة من أجل تبرير التصرفات والمفاهيم الرافضة لهذه الفئة من المجتمع، والتي يثبت حضورها وفاعليتها، بلّ وقبولها عبر التاريخ الإسلامي. إن الطهرانية الحديثة فيما يتعلق بالمثليّة تتعامى بشكل مقصود عن تاريخها في الإسلام من أجل إسباغ الشرعية الدينية على الاضطهاد الممارس عليها اليوم، وبإسم الإسلام نفسه.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.