Main Content
صورة للمشاركات/ين في الاجتماع السياسيّ التنظيميّ المنعقد في مانشن بيروت خلال أيّار

الحضور خلال اجتماع لمناقشة التنظيم السياسيّ وأزمات اليسار في مانشن. بيروت، لبنان. أيّار ٦، ٢٠٢٣. (محمد شبلاق، مصدر عام)

رؤى حول التنظيم: نهج جديد

نقدّم ترجمة عربيّة لمقال منشور على موقع e-flux باللغة الانجليزيّة تحت عنوان "Perspectives on Organization: A New Approach" بتاريخ ١٢ حزيران، ٢٠٢٣، في قسم علم النفس والتحليل النفسيّ ضمن ملفّ الثورة. بُعَيد اجتماع سياسيّ تنظيميّ في بيروت حدث خلال أيّار المنصرم، خطّ الكاتبُ النصَّ الآتي ليقدّم وجهة نظر مغايرة للتفكير بممارسة التنظيم السياسيّ، وقامَت مُترجمة المادّة بتنظيم المناقشة آنذاك وتسييرها.

 

أودُّ إهداءَ هذا النصّ إلى رفيقاتي ورفاقي الجُدُد في بيروت: ليس فقط لأنّ بضعة أمور تُلهم الحماس إلى حدّ أبعد من إدراك الضوء السياسيّ عينه ناصعاً بين شقوق السياقات الاجتماعيّة رغم شدّة اختلافها، إنّما أيضاً لأنّ موقفاً معيّناً وقع في أحد اجتماعاتنا عندما كنت في لبنان مؤخراً ولازمني بعد حدوثه.

أثناء مناقشة مثمرة جدّاً حول "التنظيم السياسيّ وأزمات اليسار(ات)"، انهمكنا بمسألتَين لا بدّ من إثارتهما في محادثات شبيهة إذا استمرّت كفاية: أوّلاً، السؤال عن سبب عدم تقارب القطاعات والاستراتيجيّات المتنوّعة ضمن اليسار وتغذية بعضها البعض إيجابيّاً، وثانياً، القضيّة الرازحة حول ما يجب عمله لتغدو المنظَّمات اليساريّة أكثر جاذبيّة لأناس خارج "فقاعة" اجتماعيّة معيّنة. عليَّ القول أنّه وبمجرّد طرح هذه المشكلات تبدّى التململ تلقائيّاً على عدد من المشاركات/ين، ولكن من لم تتعب من خوض هذا النقاش القديم والمحبط؟

فيما كنت أنظر إلى جالس أمامي يعلّق على بعض الأسئلة المطروحة، كان بوسعي رؤية غرفة الاجتماعات الكبيرة خلفه والحاضرات/ين فيها: مناضلات/ون يافعات/ون في الحزب الشيوعيّ من بيروت وطرابلس، صحفيّات/ون استقصائيّات/ون، مثقّفات/ون مشتبكات/ون، منظِّمات/ون في مبادرات مجتمعيّة، عضوات/أعضاء في أحزاب تقدميّة، عاملات/ون في منظَّمات غير حكوميّة، ناشطات/ون، مناضلات/ون كوير، وسواهنّ/م. ما جعل الحالة جديرة بالمعاينة ليس وحده التقارب الفعليّ الذي أخذ حيّزاً حينها –وإن تمحور حول قائمة طويلة ومحبطة من الإخفاقات المشتركة– ولكن كلّما تعرّفتُ على الحاضرات/ين، قلّ ما بدا لي ممكناً ادّعاء تشاركنا سواسية في الأصل أو الطبقة الاجتماعيّة. خلال الاجتماع، ورد أنّه قد مضت أعوام على آخر لقاء جمع هؤلاء الأشخاص لمناقشة أوضاعهم السياسيّة! إذاً، أمراً مدهشاً كان يحدث في مكان ما بين مقدمة المناقشة وخلفيّتها، بين هَيْكَلة واضحة سمحت لنا أن نتحدّث ونعمل من خلال هزائمنا السياسيّة وضعفنا –مقارنة المآزق في البرازيل ولبنان وأماكن أخرى– وجهد ملموس بذله الجميع في فرصة لتناول الإخفاقات بين الرفاق. أودُّ معالجة هذا التفاوت بعينه، لأنّه يشير مباشرة نحو الدوافع الأساسيّة لعمل المجموعة الفرعيّة للممارسة النظريّة (Subset of Theoretical Practice) التي أنا جزء منها.

التفكير بالتنظيم السياسيّ

يهدف جلّ عملنا في STP إلى تطوير قواعد جديدة للتفكير بالتنظيم السياسيّ، من شأنها تسهيل إنتاج إبدالات في الرؤى على المستوى التنظيميّ محاكية للتأثيرات التي ندركها بالفعل على مستوى التحليلات العلائقيّة والوضعيّة للرأسماليّة. ضمن التقليد الماركسيّ وخارجه، أنتج اليسار أدوات متطوّرة لمواجهة تجلّيات الظواهر الاجتماعيّة عند الوهلة الأولى، لها أن تعيننا على وصل النقاط بين الأحداث الاعتباطيّة ومساءَلة التحيّزات الفوريّة والعادات التي تتدَخّل في إدراكنا لأعمال القمع والاستغلال الداخليّة، وبالتالي تسهّل تحديد مواضع الضغط المعنيّة سياسيّاً في موقف اجتماعيّ مُعْطى. ولكن، عندما يتعلّق الأمر بالفعل السياسيّ وعمل التنظيم، فكرة أنّ إبدالاً مشابهاً في المنظور يمكن أن يكشف عن قرارات غير مدروسة –وانفراجات– تتحدّى نظرتنا السياسيّة لأنفسنا، تبقى غالباً منطقة غير مستكشفة ويتمّ تضمينها بنظريّة الدوافع الأخلاقيّة والشكوك الأيديولوجيّة.

في كتابه الرائع لا عَموديّ ولا أفقيّ (Neither Vertical nor Horizontal)، حدّد رودريغو نونِس بعض الافتراضات الشائعة وراء فهمنا المعهود للتنظيم السياسيّ والتي قد تساعد في تفسير هذا المأزق المفاهيميّ والعمليّ. بحسب ملاحظته، في السياسة اليساريّة، غالباً ما يتحدّد التنظيم بشكل معيّن من الجماعيّة –النقابات العماليّة أو الإطار الحزبيّ مثلاً– أو بدعوة معياريّة للعمل دون محتوى واضح، حيث يعني التنظيم كل ما نحتاج فعله لنكون أكثر فعاليّة معاً. بالإضافة إلى أنّ هذه المفاهيم تحيل إلى جذر مشترك "ربما يمكن إرجاعه للاختزال الأوليّ لـ'التّنظيم' إلى 'التّنظيم المتعمّد'". بحسب هذا الفهم، أن نتنظَّم سياسيّاً يعني الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة أكثر انتظاماً، مع شكل أو هدف نهائيّ معروف سلفاً، ويعمل كدليل لهذه العمليّة الجماعيّة. عكسياً، إذا وُجِد ما يشوّه ديناميكيّة الجماعة، أو يحرِّف هدفها السياسيّ أو يقسمه إلى مصالح متضاربة، طالما أنّها ليست عمليّات قصديّة، يتوجّب علينا استنتاج وقوعها خارج نطاق التنظيم السياسيّ –أو ما هو أسوأ: قد نستنتج أنّ سياسات شخص آخر تتطفّل على سياساتنا. يمكن فهم الوضع خلال الاجتماع في بيروت بعبارات مماثلة: رغم الكثير مما لدينا لقوله حول ما يجب أن نفعله سياسيّاً، فإنّ ما كنّا نقوم به فعليّاً من خلال تواجدنا سويّاً بدا، للغرابة، غير مرئيّ ولا تترتّب عليه أيّة تبعات1 .

ببساطة: قد تكون طريقة انتظامنا العفويّة أكثر إثارة للاهتمام سياسيّاً من الطريقة التي نطرح وضعنا وأهدافنا لأنفسنا. في حالة اجتماع بيروت، رغم أنّنا كنّا نناقش أزمة اليسار كعمليّة جارية من التهافت والسخط، اقترح نجاح اجتماعنا أمراً مشتركاً في اختبار هذه الأزمة العميقة، باستطاعته تجاوز مشهد سياسيّ مشتّت وجمع الناس معاً، وإنّ للعمل من خلال ما حدث فقط. ولكن، في مواقف عديدة يدلّنا الانفصال بين نوايانا السياسيّة والقيود المؤثّرة على انتظامنا إلى تحدّيات وجوانب غير مفكّر بها من المأزق، أو إلى نواقص مزمنة لا يسعنا التغاضي عنها.

رغم الكثير مما لدينا لقوله حول ما يجب أن نفعله سياسيّاً، فإنّ ما كنّا نقوم به فعليّاً من خلال تواجدنا سويّاً بدا، للغرابة، غير مرئيّ ولا تترتّب عليه أيّة تبعات.

لنعد برهة إلى هذين الموضوعَين السياسيَّين المتواترَين: مسائل افتقارنا المزمن للتوافق الاستراتيجيّ وللالتزام السياسيّ الشعبيّ. إذا حصرنا أنفسنا بالنظرة المعتادة حيث نقوم بداية بتحديد طموحاتنا السياسيّة وأشكال فعلنا، ثم نشرع في حشد الناس حولها، لن نقدر على غير القنوط لكثرة الفوارق بين التوجهات السياسيّة التي تُخفّف قوى اليسار الضئيلة أصلاً وتشتّتها. كما لا يمكننا تجنّب الخوض في متاهة التأمل بأسباب عدم انتظام معظم الناس سياسيّاً. ولكن، إذا قاربنا هاتين المسألتين بفرضيّة مغايرة تقول بأن التنظيم ليس اسماً لشكل أو فعل معيّن، إنّما لوجهة نظر بشأن أيّ ظاهرة اجتماعية، تبدأ عندها الأمور بالانفراج2 .

على سبيل المثال، قد نلفت إلى أنّ تفكّك اليسار يبدو ناتجاً عن تحوّل بنيويّ في الحقل الاجتماعيّ الاقتصاديّ للرأسماليّة المعاصرة، والذي لم يعد معتمداً على تعزيز وصيانة حيّز اجتماعيّ متجانس بالحدّ الأدنى لتعميم القيمة وتثمينها. تحوّل هذه الفرضيّة التركيز بعيداً عن النوايا السيّئة المحتملة للاعبين السياسيّين –أو قراءاتهم الضعيفة لماركس ولينين– كمبّرر لانشعابنا السياسيّ في التكتيكات والمراجع والوسائل، ما يفتح احتمال أنّ أزمة اليسار قد تجسّد خاصيّة للعالم الحقيقيّ3 . يمكن للافتقار إلى التعدّديّة البدهيّة أن ينعكس بين المصالح المحليّة والأمميّة داخل الطبقة العاملة في المجموعات السياسيّة التي تلتَفّ حول هذه المصالح والشواغل الإقليميّة4 . بالإضافة إلى قضيّة ثانيّة –متعلّقة بالشعِريّة الشعبيّة لليسار– يجب إعادة صياغتها كاملةً بمجرد تصوّر أنّ المنظَّمات اليساريّة مُثقَلة بالقيود التنظيميّة حالها كحال أيّ مؤسّسة أو فرقة اجتماعيّة أخرى مُتأثرة بهذه التّحولات الاجتماعيّة الشّعواء5 .

من هذا المنظور البديل، لم نعد بحاجة إلى تكهّن العقبة الأيديولوجيّة التي تعترض، ساكنةً، نشاط الآخرين سياسيّاً. قد يتّضِح أنّ هذه العوائق ليست سوى تلك التي تمنعنا بالفعل من أَنْ نكون أنفسنا مناضلات/ون أكثر فعاليّة: نُدرة الوقت والإرهاق ورَهبة لقاء الغرباء، الضغوط والالتزامات الإضافيّة للحياة النضاليّة، كلفتها الماليّة والعاطفيّة، والشّعور بعدم الارتياح مع نقص الوعي الذاتيّ بين أقراننا حول نواقص منظَّماتنا، وما إلى ذلك…

على أمل أَن تُساعد هذه الأمثلة الفظّة في توضيح بعض الحدود في طريقة تفكيرنا الحاليّة بالتنظيم السياسيّ والدافع وراء محاولة STP أن تطوّر قواعد مفاهيميّة أكثر تكاملاً من شأنها ليس فقط توفير صورة أكثر "هيكليّة" لمشاركتنا النضاليّة، ولكن أيضاً للقيام بذلك عبر استخدام الأدوات التي تُيَسِّر التّحرك بين الاقتصاد السياسيّ والعمل السياسيّ، أو بين القيود التي تفرضها إعادة الإنتاج الاجتماعيّة وتلك التي يفرضها التحول السياسيّ. يُلحَظ أن هذا لا ينطوي بأيّة حال على تقليص حياة النّضال إلى ديناميكيات الاشتراكيّة الرأسماليّة. بل على العكس: وكما يقترح مثال الاجتماع في بيروت، فإننا أحياناً نفتقر إلى الوسائل للاعتراف بأنّنا نفعل أكثر مما نعتقد، والوسائل لاستكشاف ما قد يَستَتْبعه ذلك من إجراءات جماعيّة أخرى مُمكنة. ما نحتاجه هو وجهة نظر تسلّط الضّوء على كيف أنّ الجماعيّة السياسيّة لا تتماسك عبر نوايانا أو أهدافنا المباشرة أو وعينا، إنما من خلال القيود التنظيميّة والديناميكيّات والعلاقات الاجتماعيّة التي وضعناها –عن قصد أم دونه–.

الثالوث التنظيميّ: التكوين والتفاعل والوضوح

إذاً، نحتاج إلى تعريف جديد لما تعنيه كلمة "التنظيم". يتعامل هذا المنظور مع الأسئلة الثلاثة التالية كجوانب للشيء الواحد: كيف يتكوّن شيء ما؟  –أي ممّا هو مصنوع وكيف يتمّ تجميعه؟ ما الذي يمكنه أن يتفاعل معه؟ –أيّ ما هي الأشياء الأخرى القادر على قلبها؟ مما يتحسّس؟ –بمعنى ما هي الاضطرابات التي تحسب له، وأيّها لا تحسب له؟ في STP، نستخدم مصطلح "الثالوث التنظيميّ" لنُسمّي مبدأ معاملة هذه الأسئلة الثلاثة على أنها أسئلة متوازية في النهاية. يمكننا إعادة الصياغة بطريقة جذّابة نوعاً ما فنقول، من وجهة النظر التنظيميّة، إنّ التكوين والتفاعل والوضوح جوانب ثلاثة للديناميكيّة الاجتماعيّة نفسها.

ما نحتاجه هو وجهة نظر تسلّط الضّوء على كيف أنّ الجماعيّة السياسيّة لا تتماسك عبر نوايانا أو أهدافنا المباشرة أو وعينا، إنما من خلال القيود التنظيميّة والديناميكيّات والعلاقات الاجتماعيّة التي وضعناها –عن قصد أم دونه.

مثلاً، خُذّ/ي طريقة تكوُّن مجموعة صغيرة ما. المسألة لا تقتصر على من هو جزء منها، إنّما أيضاً كيفيّة تشارك المهام واتّخاذ القرارات تؤثّر مليّاً على ما يمكن للجماعة أن تتفاعل معه: مجموعة صغيرة من طلاب الدراسات العليا مجتمعة في بيت أحدهم لمناقشة السياسة لهي غير قادرة، كمجموعة، على التّأثير جديّاً، وقليل ما يمكن له أن يتفاعل معهنّ/م كمجموعة أيضاً. بالطبع، إذا كان التيار الكهربائيّ منقطعاً في المدينة، فإنّ ظروف اجتماعهم ستتغيّر، دون أن يحيل ذلك وجود مجموعة المناقشة مستحيلاً أو حتى مختلفاً بشدّة. للسبب عينه، كمجموعة، هم لا "يرون" أزمة الطّاقة، وإن وُجدَت لها تمثيلات عقليّة لديهنّ/م كأفراد وربما كموظفات/ين في أعمالهنّ/م اليوميّة، فإنهنّ/م يتفاعلون ع انقطاع الكهرباء على أنّه ذي مغزى. قارن/ي ذلك بوضع تستضيف فيه المجموعة عينها برنامجاً إذاعيّاً أسبوعيّاً: نتحدّث هنا عن المجموعة ذاتها من الأشخاص، وربما نستخدم المساحة نفسها لتسجيل مقابلاتهنّ/م ونقل مواقفهنّ/م السياسيّة إلى أناس آخرين –إنّما الآن يصبح انقطاع الكهرباء "فرقاً يحدث فرقاً" لأنه يقطع اتصالهنّ/م بجمهورهنّ/م. إنّ كيفيّة تكوين المجموعة (منذ أن أصبح لديها اتّصالات بمساحة أوسع عبر الإنترنت والحواسيب) تؤثّر على ما يمكنها التفاعل معه (ليس فقط جمهورها وعدم استقرار شبكة الطاقة)، مما يسمح بدوره للمجموعة أن تطرح أسئلة ذات مغزى عن مشكلة موجودة فعليّاً: كيف نصل إلى جمهورنا إن لم نتمكن من الاعتماد على الكهرباء؟ أيجدر بنا أن نشقَّ طريقنا حول هذه القضيّة أم أنّه توجد قوّة جاذبة لمستمعينا كافية لتسييسهنّ/م عندما يفصل انقطاع التّيّار بثّنا؟

إنّ القيود المختلفة التي نطيعها عندما نتنظّم –وقد تتأتّى عن صداقة، تقارب، روابط أسريّة، من تسليط القانون والتهديد بالعنف، من الطابع الجبريّ للاحتياجات والإجراءات الاقتصاديّة، أو حتى من المبادئ والالتزامات السياسيّة– تمهّد لمجال معيّن من القوى التي قد نتفاعل معها، أو التي قد تقاوم أفعالنا. تتموضع مجموعة مكرَّسة لتخريب البنية الحكوميّة التحتيّة في مسار تصادميّ مع الشرطة بغضّ النظر عمّا تُخبّره عن نوع المجموعة ولماذا تفعل ما تفعله. كما أنّها، بطبيعة المقاومة التي سيقدّمها القانون وعملائه، ستتلقّى معلومات غير تافهة حول ماهيّة الشرطة، وكيف تتصرَّف، وبماذا تأبه الحكومة ولا تأبه. في حال تألّفت هذه المجموعة من أشخاص ميسورات/ين إلى حد ما، ممّن لا يحتاجون إلى العمل، أو اللواتي لن تتأثرنَ مباشرة بتدمير الممتلكات العامّة، رغم أن تكوينهنّ/م الجماعي يضعهنّ/م في علاقة سلبيّة مع القانون الذي يتركهنّ/م بشكل مثاليّ اقتصاديّاً في المنزل، بحيث لا تُفرَض أيّ مقاومة من عالم العمل نفسها. وعليه، فمن الممكن ألا تنتج عن تدخلاتهنّ/م أيّ معلومات جديدة عن الواقع الاقتصاديّ في منطقتهنّ/م.

إنّ القيود المختلفة التي نطيعها عندما نتنظّم –وقد تتأتّى عن صداقة، تقارب، روابط أسريّة، من تسليط القانون والتهديد بالعنف، من الطابع الجبريّ للاحتياجات والإجراءات الاقتصاديّة، أو حتى من المبادئ والالتزامات السياسيّة– تمهّد لمجال معيّن من القوى التي قد نتفاعل معها، أو التي قد تقاوم أفعالنا.

يحدث كل هذا بغضّ الطرف عن النظريّات التي تتبنّاها هذه المجموعات الافتراضيّة المتنوّعة، أو حتى عن ماهية التمثيل الخاص للعالم الاجتماعيّ الذي يَحْمِلْنَه فرديّاً في رؤوسهنّ/م. طبعاً، من غير المحتمل أن يتمكّنَ أحدهم من الانخراط في العمل السياسيّ دون الحاجة إلى تكييف أفكاره ونماذج العالم خاصّته مع الأشياء التي تتطلّب منّا المنظَّمات التّعامل معها. لكنّ النقطة الحاسمة تكمُنُ في أنّ البعد الذي نتعقّبه هنا عندما نركّز على هذه الدورة "الثلاثيّة" ليس الصلة بين النظريّة والممارسة، أو بين تمثيلنا الفرديّ للواقع وأفعالنا. بالأحرى، لقد أدركنا مستوى تنظيميّاً متيناً يمكن إبداله عن قصد، إنّما لا يمكن اختزاله  بنوايانا أو شرحه بعيداً [تبريره] بالآثار التهديديّة للأيديولوجيّا الرأسماليّة.

أنواع التحليل التنظيميّ: الإثنوغرافيّ والتحليل النفسيّ والسياسيّ

من البيّن أنّ التمهيدات المثيرة للاهتمام لهذا النوع من التحليل التنظيميّ عديدة. في الواقع، بما أنّني ابتدأت هذا النصّ بحكاية قصيرة، قد يكون مناسباً إنجازه بالانتقال برهةً إلى سؤال كيفيّة كتابة وتحليل المشاكل التنظيميّة. تبعاً لفكرة طرحها الفيلسوف رافاييل سالدانيا لأول مرة، بوسعنا تصنيف ثلاثة "أنواع أدبية" متعارف عليها تحاول نبشَ الهياكل التنظيميّة الأساسيّة الكامنة ضمن الحياة الاجتماعيّة: الشكل الإثنوغرافيّ، ودراسة الحالة التحليليّة النفسيّة، والتحليل السياسيّ للوضعيّة6 . ما يثير الدّهشة هو تَراكُب هذه الأنواع أو المقاربات الثلاثّة بدقّة فوق شرائح مخططّنا الثلاثّي. في الواقع، يبدو أنّ كلّاً منها يجمع بين اثنين من المصطلحات الثلاثة فيما يحتمل أن تصنّم المصطلح المتبقّي، وتفترضه كمصدر لـ"الآخريّة" المبهمة، يجب احتواؤه بطريقة ما. تُعرَّفُ الإثنوغرافيّات بالانشغال المباشر بكيفيّة ارتباط التّكوين والوضوح، مع محاولة إخماد تأثير التفاعل، واختزاله إلى مادّة مقارنات. إنّ الغرض من المكوث بين الناس والتّعلم منهم هو أن تكون قادراً على تبيان كيف تحوّل بعض أشكال التنظيم الاجتماعيّ إلى بعض الاختلافات الصائبة أكثر من غيرها، مع انبثاق صور جديدة وشرعيّة بالقدر نفسه للعالم جنباً إلى جنب الطّرق الفريدة التي يقيم عبرها الناس علاقات اللُحمة والألفة. يذهب الكثير من العمل إلى محاولة تحييد التّشوهات المحتَملة التي قد تعود لوجود عالِم الأنثروبولوجيا في العالَم الاجتماعيّ الذي يتمّ وصفه.

من جهة أخرى، ينسجم شكل دراسة الحالة أكثر مع العلاقة بين التكوين والتفاعل: بالنسبة للمحلّلين النفسيّين، فإنّ نقطة الاتّصال بين العلاقات التي يقيمونها مع مرضاهم ونوع الهياكل اللاواعية التي يتفاعلون معها هي مجال "التحويل". دراسة الحالة هي محاولة لالتقاط شيء لا ينوجد بشكل مستقل عن تفاعل المحلِّل مع المريض، بل ينبثق من خلال تفاعله. على المقلب الآخر، فإن دراسة الحالة هي نوع من الكتابة حيث يتمّ مساءلة الوضوح أو تحييده جزئيّاً، كما لو أن صون غموض معيّن على المستوى المعرفيّ جزء ضروريّ من التبصّر التحليليّ الذي يستوجب منّا عدم الوثوق بقيمنا الذاتية –ولا بقيم المريضات!– عند الإصغاء إليهنَّ يتحدَّثنَ على الأريكة.

ختاماً، تركز الطبيعة البراغماتيّة لتحليل الوضعيّة السياسيّة على العلاقة بين الوضوح والتفاعل. يؤدّي توضيح الهياكل الاجتماعيّة الصائبة إلى توضيح المواقع الصائبة للتدخل السياسيّ، فيما تتمّ إزاحة توتّر معيّن نحو مسألة التكوين الاجتماعيّ والسياسيّ. لهذه الإزاحة سبب هيكليّ: في اللحظة التي نصيغ فيها الوضعيّة كمبتغى، يصبح من العسير علينا ألّا ننزع أنفسنا عنها أو أن ننقسم إلى ذوات وأغراض للبحث عندما نعالج ظروفنا الاجتماعيّة أو سأمنا. لهذا السبب ربما، إنّ السمة الملحوظة لتحليل نوع الوضيعة هي العجز الذي يحشد المرءُ عبره ضمير الجمع 'نحن' للإشارة إلى ذات سياسيّة –بالمقارنة، مثلاً، بالطريقة عينها التي يتناول بها الضمير نفسه كمرجعيّة أكثر جماعيّة وملموسيّة في كل من الخطب السياسيّة والوثائق التنظيميّة الداخليّة. من المحتمل أن يكون الانقسام التركيبيّ متضارباً لدرجة أنّ اللغة نفسها التي يكتب بها التحليل تتيح للجميع فعليّاً إدراك أن النصّ غير موجهٍ للموضوع الذي يدعي أنّه جزء منه. إذا ظهرت آخريّة ما خطيرة على مستوى التفاعل في الإثنوغرافيّات، وعلى مستوى الوضوح للتحليل النفسيّ، فهنا تنبثق من القضيّة الشائكة للتكوين السياسيّ.

يؤدّي توضيح الهياكل الاجتماعيّة الصائبة إلى توضيح المواقع الصائبة للتدخل السياسيّ، فيما تتمّ إزاحة توتّر معيّن نحو مسألة التكوين الاجتماعيّ والسياسيّ.

قد تستوجب الدراسة المؤاتية لما يجري في البيئة الحيويّة التنظيميّة أن تسري بين أشكال ثلاثة، تارةً، تولية الإرجاء الأنثروبولوجيّ لأي شاغل استراتيجيّ بغية تسليط الضوء على كيفية هَيْكَلَة الحركات والجماعات السياسيّة المختلفة لنفسها وكيف يؤثر ذلك على مقاربتها للحالة. طوراً، سيتعلّق الأمر بالمساومة على الروايات السياسيّة الشاملة التي نثق بها ونتماهى معها للتركيز على ما يحدث متى تفاعلنا مع بيئة اجتماعيّة بعينها أو مع مجموعة سياسيّة أخرى، مما يخلق تأثيرات مفاجئة ورؤى جديدة محتملة. أخيراً، قد تتطلّب بعض الحالات "تحليلاً ملموساً [تقليديّاً]  للأوضاع الملموسة"، مع استبعاد التناقضات النابعة من التراجع المؤقت بهدف إنتاج تحليل سياسيّ.

للتنظيمات نفسها

إنّ الأخذ بوجهة النظر التنظيميّة في الممارسة العمليّة يعني تعلّم كيفيّة تبنّي وجهة نظر المنظَّمات نفسها. يمكن لنا تخيّل ذلك كنوع من التكبير الكسوريّ (fractal). أولاً، على المستوى النظريّ، نؤثر على تبدّل المنظور من خلال أسئلتنا الثلاثة المتعلّقة بالتفاعل والتكوين والوضوح. يوسّط ذلك المنظور التنظيميّ، ويتيح لنا صقل هياكل تنظيميّة محدّدة ومن ثم السؤال عن كيفيّة ظهور المحيط الاجتماعيّ للمركَّب التنظيميّ نفسه. فعلياً، كان الجهد الرامي إلى تبنّي وجهة نظر المنظَّمة، وليس وجهة نظر الذين واللواتي ينظِّمونها في الأمثلة المناقَشة أعلاه، على المحكّ. مثلاً، عندما نقارن التمثيل المعقّد للواقع الاجتماعيّ المعمِّر في رؤوس طلبة الدراسات العليا الذين يشكّلون مجموعة دراسيّة مقيّدة بأبسط المعايير الاجتماعيّة التي تستجيب لها المجموعة، فنحن نحاول فعليّاً أن نتخيّل وجهة نظر المجموعة الدراسيّة نفسها، والتعاطي معها كمستشعر لاختلافات اجتماعيّة دون غيرها. بشكل عام، يمكننا تسمية هذا الأسلوب بـ"الفينومينولوجيا الموضوعيّة"7 . تتطلب هذه الفينومينولوجيا الابتعاد عن كيفية تمظهر بعض الظواهر الاجتماعيّة لنا بهدف تحليل تمظهرها لشيء آخر قائم في العالم الاجتماعيّ نفسه –مثل هيكل جماعيّ أعلى أو منظَّمة سياسيّة.

يمكننا استخدام الطّريقة نفسها لمقاربة فعل الكتابة عينه من وجهة نظر المنظَّمة. بدلاً من تصوّر الكتابة على أنّها مكان مترف يتم تقديم فيه الممارسة الاجتماعية لمطلق قارئ، يمكننا التفكير فيها على أنها لحظة حسيّة لتلك الممارسة الاجتماعيّة نفسها، والتي تشمل كلّاً من الكاتب والقرّاء في مُركَّب مادّي. في نهاية المطاف، يكون النصّ السياسيّ فعّالاً بقدر العملية السياسيّة التي تخلق أرضيّة مُشتَركة أساسيّة، إنّ مجالاً مرجعيّاً مشتركاً للكلمات والصور يتيح لها أن ترمز إلى أكثر من ما يمكننا رؤيته أو التّفكير به فردياً.

خذ/ي الاجتماع في بيروت: عندما قدّمتُ اللّحظة القصيرة التي جذبَت انتباهي هناك، أشرتُ لمكان جلوسي في الغرفة، وحقيقة أننّي تمكنت من رؤية الرفاق والرفيقات جميعاً في الخلفيّة، بينما في المقدمة كنّا نتكلّم عن عزلتنا وحالتنا المتأزّمة. يمكنني إعادة قصّ الحكاية في هذا المقال وإنّي على ثقة أنّها ستلمس شيئاً حقيقيّاً، وذلك تحديداً نتيجة اشتباك مناضلات/ين مثقفات/ين من بيروت مع أناس STP وعملهم، وتحويل المقارنة بين وضعيّاتنا ونقاط التلاقي المفاجئة إلى اجتماعات مستقبليّة ومهام مشتركة.

في نهاية المطاف، يكون النصّ السياسيّ فعّالاً بقدر العمليّة السياسيّة التي تخلق أرضيّة مُشتَركة أساسيّة، إنّ مجالاً مرجعيّاً مشتركاً للكلمات والصور يتيح لها أن ترمز إلى أكثر من ما يمكننا رؤيته أو التّفكير به فرديّاً.

تحيا وتموت الجدوى الحسيّة لهذه الكتابة على مدار التحقيق المستمر –ومع احتمال أن يتعرّف الآخرون على أنفسهنّ/م كجزء من العمليّة المشتركة نفسها. نلتقي هنا بالفائض الهائم مرة جديدة تغمز تلك الآخريّة عادةً إلى ضرورة تراجع متحفّظ في الموقف، ولكن من المنظور التنظيميّ، فهي محرّك القدرة لدى الحركة السياسيّة لصياغة أقرب لنفسها.

  • 1من لا عَموديّ ولا أفقيّ (صفحة ٥): "(يجب) أن تكون نظريّةُ التنظيم نظريّةَ عن ماهيّة التنظيم قبل أن تكون نظريةُ لما يجب أن يكون. بدلاً من الاستهلال بأسئلة مثل 'ما نوع المنظَّمة التي على المرء بناءها؟' أو 'ما هو الشكل الصحيح للتنظيم؟'، يجب أن تسعى أوّلاً لتعريف ماهيّة التنظيم السياسيّ بالمعنى الأعمّ، ما الغرض منه، وما يمكن ولا يمكن أن يكون. بدلاً من وصف نتيجة حتميّة، ينبغي باختصار أن تبيّن المتغيّرات الضمنيّة في المشكلة بأدقّ ما يمكن، وإعداد خارطة بالخيارات والمقايضات والعقبات التي تحدّد النقاط التي منها تتشعب حلول متباينة عن بعضها البعض."
  • 2قدّم الفيلسوف السوفييتيّ ألكسندر بوغدانوف فكرة "وجهة النظر التنظيميّة" في عمله العظيم من قبل الفيلسوف السوفيتي ألكسندر بوغدانوف في عمله العظيم تكتولوجي (Tektology). يناقش نونِس هذه الفكرة في الفصل الأول من كتابه.
  • 3هذه أطروحة إدميلسون بارانا وغابرييل توبينامبا في "عمارة الحواف: اليسارات في أزمنة تهميش العالم"، (Arquitetura de Arestas: as esquerdas em tempos de periferização do mundo, 2022). لم يُتَرجم الكتاب إلى العربيّة أو الانجليزيّة بعد.
  • 4انظر النصّ الأخير لوليام كلير روبرتس "الطبقة في النظريّة، الطبقة في الممارسة" (Class in Theory، Class in Practice) لمناقشة رائعة حول كيفيّة التفكير بسياسة الطبقة في سياق اهتمامات الطبقة المتباينة.
  • 5أنصح هنا بنصّ عظيم بقلم عضوَين في STP بعنوان "صخب النضال" (The Hustle of the Struggle).
  • 6قدّم رافاييل سالدانيا هذه الأفكار في اجتماعين لـSTP. للاطّلاع على التسجيلات انظر/ي هنا وهنا.
  • 7أتابع هنا استخدام المصطلح بحسب وروده في أعمال آلان باديو، لا سيّما منطق العوالم (Logic of Worlds: Being and Event II)، رغم رنينه المثير للاهتمام مع استخدام توماس ناجل.
    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.