قوّة الامتناع عن العمل: نحو الإضراب العامّ كعمل ثقافي
في اليوم ٤١٢: الثلاثاء الواقع في ١ كانون الاول ٢٠٢٠
عاد سعد الحريري ليتولّى رئاسة الوزراء مرة أخرى. جريمة الرابع من آب في المرفأ تُتبع بكوارث أصغر تدريجيًا، فيما تتزايد الإصابات الحرجة بفيروس كورونا. هذه الأحداث أشبه بتنويعات على ثيمة واحدة، وبتكرار متواصل لكارثة مخطط لها، على الرغم من أنّ هذه التنويعات صارت أكثر فجاجةً وأشد فتكًا.
عندما قُتل فوّاز السمّان في نيسان الماضي برصاص الجيش اللبناني، اجتاحني غضب عارم على هذه الصور المتكررة، على هذا السيناريو المأساوي والمألوف عن متظاهر شاب (أب، أخ، شريك، رفيق، إلخ) يُقتل وهو يطالب بنظام سياسي عادل وبفرصة للعيش. دأب المتظاهرون على تسمية فوّاز ”شهيد ثورة الجياع“. تذكرتُ صورة فوتوغرافية عثرت عليها من مظاهرة مجهولة في السبعينيات، تُظهر شابات يرتدين الزي الرسمي لمعمل ويحملن لافتة تقول ”هويتنا أن نموت من أجل خبزنا“. شعرت بالارتباك إزاء هذا التشابه بين الشعارين، فكلاهما مثقل بسرديات عن قدرة الطبقة العاملة على التحمّل، وعن حتمية المصير، والمجد المرتبط بالشهادة. قد يكون الرابط غير ملحوظ، إلا أنه راسخ على الرغم من تحدي المتظاهرين لهذه السردية، مثل مشاركات مواقع التواصل المصرة بأن ضحايا انفجار ٤ آب ليسوا شهداء.
ماذا عن الشعار الآخر للحركة العمالية، ”الخبز والورود“، والذي اشتهر لارتباطه بإضراب ذي أغلبية نسائية لعاملات وعمال — وكان العديد من العمال مهاجرين جدد من سوريا الكبرى — في مصنع في لورانس في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩١٢؟
تمحور نجاح ذلك الإضراب حول الرعاية المشتركة التي جاءت على شكل الغناء، ومشاركة الطعام، والترجمة الفورية للاجتماعات، وتأمين الرعاية للأطفال من قبل العاملات والعمال. ظهرت على اللافتات أغنية شعبية تقول ”القلوب تجوع كما الأجساد: أعطونا الخبز ولكن أعطونا الورود!“. هذه فروقات مهمة في السردية تؤثر بشكل قوي على استراتيجيات وتكتيكات النضال، إذ أن لها مفعولًا ملموسًا على الحيوات. لا أحد يناضل كي يموت من أجل الخبز، بل كي يعيش.
إن السرديات القائلة بحتمية موت أبناء الطبقة العاملة ليست من صنعنا، فهي في صلب الرأسمالية العالمية، ولها مكانة أساسية في إطار نيولبرالية لبنان النيو-إقطاعية. نجحت جائحة كورونا بإظهار هذه الحقيقة بوضوح صارخ، حيث صار يُزعم أن ما يُسمى ”الاقتصاد“ يختلف عن الصحة، وأن لغة المفاضلات، وتحليل المخاطر، ورصد وفياتنا ووفيات غيرنا المحتملة، كلها يتم تقديمها كطرق طبيعية لاتخاذ القرارات والعيش. في مواجهة هذه الأنظمة والديناميات، بات علينا أن نتجنب إنعكاس هذه السرديات على أساليب المقاومة التي ننتهجها، والتي يجب أن تدفعنا لنحلم ونتخيل ونفتح آفاقًا جديدة.
وسط تفشي حالة الغضب والإحباط وضعف المعنويات، قد تؤدي العودة إلى الإضراب العام، بصفته ممارسة سياسية وثقافية منتجة، إلى خلق مساحة تستوعب أطرًا مختلفة للتمثيل والنشاط.
وعدت ثورة تشرين — وأوفت، وبأكثر من شكل — بوضع حد لهذه السرديات. تتجسد إعادة التخيل هذه بأوضح شكل في إحياء الإضراب العام، والذي نجح بإعادة إدخال العمل إلى السياسة الجماهيرية. وسط تفشي حالة الغضب والإحباط وضعف المعنويات، قد تؤدي العودة إلى الإضراب العام، بصفته ممارسة سياسية وثقافية منتجة، إلى خلق مساحة تستوعب أطرًا مختلفة للتمثيل والنشاط.
تاريخ الإضراب العام في لبنان
أصبح الإضراب العام ابتداءً بتاريخ ٢١ تشرين الأول ٢٠١٩، وبشكل متكرر خلال الأشهر التالية، أحد أهم مظاهر السياسة اللبنانية، وإن تعذّر استيعابه سابقًا. في نهاية ٢٠١٩ وبداية ٢٠٢٠، شارك في الإضراب وبشكل متقطع كل من الأساتذة والطلاب والعاملين في القطاع العام والمؤسسات الثقافية، وقطاع الاتصالات والبنوك، وحققوا انتصارات جزئية. على الرغم من أن هذه الإضرابات لم تكن شاملة قط، فقد رافقها إغلاق طرقات نجح بشكل مؤقت في إيقاف سير العمل المعتاد. قبل تشرين الأول ٢٠١٩، كان الإضراب العام الذي يشارك فيه كل عامل في كل قطاع — بهدف شل الاقتصاد وإضعاف قبضة السلطة الحاكمة — أشبه بحلم بعيد المنال: الفكرة رومانسية بحد ذاتها، إلا أن ما حصل خلال فترة ما بعد الحرب، من إضعاف للحركة العمالية، يجعل فكرة الإضراب عصية على التخيل.
لكن الحال لم يكن هكذا على الدوام، فقد كان الإضراب العام أداة فعالة في لبنان في القرن العشرين. في أيار ١٩٤٦، خلال أولى سنوات الاستقلال اللبناني، قاد عمال في قطاع التبغ، معظمهم من النساء، إضرابًا في ”الريجي“، وهي شركة فرنسية لبنانية احتكرت صناعة التبغ. قتل الجيش اللبناني حينها وردة بطرس إبراهيم، التي كانت عاملة ناشطة في الإضراب. هدد تحالف واسع من الاتحادات العمالية الناشئة بإضراب على مستوى القطاع العام بأكمله١، مما دفع بالريجي إلى التفاوض مع العمال وأحدث زخمًا كافيًا لسن قانون العمل اللبناني، وإن كان ذلك القانون يعتبر ضعيفًا. في تشرين الثاني ١٩٧٢، أثمر الإضراب العام مجددًا. تسبب القمع العنيف للعمال المضربين في مصنع حلويات غندور وأولاده بمقتل شخصين٢. أدى الإضراب الوطني الشامل إلى الضغط على الشركة كي تعيد العمال الذين تم طردهم، وحقق في نهاية المطاف تحسينات بسيطة على تشريعات العمل.
بدأ هذا ”التوجه المنطقي“ بالتغير كليًا بعد عقدين من الزمن. في شباط ١٩٩٦، دعى الاتحاد العمالي العام في لبنان،الذي كان حينها قوة عمالية مستقلة وذات اعتبار، إلى إضراب عام ردًا على الرؤية الاقتصادية لرفيق الحريري والدين العام المتصاعد وانحدار الأجور٣. تسبب التهديد بالإضراب، إضافة إلى قدرة الحركة العمالية متجددة النشاط على تقييد نظام الحريري القائم على الخصخصة وتركز الثروات، بإخافة الحكومة، فلجأ الحريري لفرض قيود شديدة الفعالية، معلنًا عن منع التظاهر لثلاثة أشهر وحظر تجول يفرضه الجيش. ألغى الاتحاد العمالي العام الإضراب في آخر لحظة، مما أنتج نقطة تحول تاريخية أدت في نهاية المطاف إلى تدعيم حملة الحريري الساعية إلى طمس نفوذ الحركة العمالية.
مشهد الشوارع الخاوية في بيروت وطرابلس خلال تلك الفترة يعبر عن القوة التي يحدثها امتناعنا الكلي عن العمل، وهذا المشهد أشد تأثيرًا من صور ساحاتنا وهي تغص بالناس خلال أوقات التظاهرات السياسية.
نجح الحريري في ترويض حركة الاتحاد العمالي، مستفيدًا من حالة الإنهاك خلال فترة ما بعد الحرب وانعدام الثقة المتبادل بين الطوائف. لا زلنا إلى اليوم نتحمل تبعات تلك الحقبة التي كادت أن تقضي على أي تضامن عمالي جاد في تحركاتنا. على الرغم من ذلك، أعتقد أن مشهد الشوارع الخاوية في بيروت وطرابلس خلال تلك الفترة يعبر عن القوة التي يحدثها امتناعنا الكلي عن العمل، وهذا المشهد أشد تأثيرًا من صور ساحاتنا وهي تغص بالناس خلال أوقات التظاهرات السياسية.
الإضراب العام شكلاً تعبيريّاً
حدث كل من هذه الإضرابات ضمن مشهد سياسي - ثقافي كان فيه الإضراب أداة فعل دارجة وممكنة، على خلاف المشهد اليوم. كانت الإضرابات العابرة للقطاعات والقادرة على تعليق صناعات البلد الإنتاجية — والتي جرت في اللحظات التاريخية المذكورة أعلاه — منظمة من قِبل الاتحادات العمالية، في حين أن المشهد الاقتصادي اليوم قد تغير. لا قيمة تُذكر للصناعة اللبنانية، وثروة الطبقة الإقطاعية متركزة في السوق العقاري ورأس المال أكثر من الإنتاج. مع تزايد العزل العنصري داخل الطبقة العاملة وتدهور أحوالها، صارت الطبقة الحاكمة أكثر حصانة إزاء نتائج الإضراب العام التي كانت في السابق شديدة الوطأة.
لكن يبقى بإمكان الإضراب العام، في ظل ظروف كالتي نعيشها، أن يسرّع تغيير أفق التحرك كما في السابق، وهنا مكمن سحره. فبحسب كلمات روزا لوكسمبورغ، التي كتبتها قبل قرن، يمكن للإضراب العام أن يقدم السبيل لخلق ”ظروف النضال السياسي اليومي“٤. يؤدي الإضراب، للمفارقة، إلى زعزعة الأمر الواقع فجأة، محوّلاً المشاعر المشتركة إلى أفعال .
بالتماشي مع هذا المنطق، لم تكن الدعوة إلى الإضراب العام في ٢١ تشرين الأول ٢٠١٩ مرتبطة بمجموعة واحدة أو شخص أو اتحاد. أخبرني العديد من المنظمين الناشطين أن هذه الخطوة ”بدت منطقية بصفتها الخطوة التالية“. نقلت مصادر إعلامية أن الدعوة إلى الإضراب أتت من عدة جهات. على الرغم من أنني قد أعثر عن القصة وراء مصدر الدعوة إذا بحثت في الموضوع أكثر٥، أود أن أقترح أن الإضراب العام — ومثل الكثير من التحركات الشعبية الفعالة — قد تحقق بعد عقود من استحالته لأنه كان الخيار المنطقي للعديد من الأشخاص وفي الوقت ذاته. من هذا المنطلق، أصبح بالإمكان النظر إلى الإضراب العام بصفته أداءً جماعيًا.
إن هذه الأعمال الثقافية الجماعية والممارسات السياسية الشعبية هي بالتحديد القادرة على أن تمنحنا شيئا نتطلع إليه، في ظل مناخ الإنهاك والغضب وضيق الخيال. إن إعادة إحياء هذا العمل الثقافي-السياسي-الجماعي القادر على إحداث التغيير خطوة أساسية في أوقات اليأس المستفحل التي نعيشها.
بحسب المنظر الكويري والثقافي خوسيه إستيبان مونيوز، فإن ”قوة الأداء تكمن في قدرته على توليد نموذج من المعرفة والتمييز بين الجماهير والمجموعات يؤدي إلى خلق أنواع من الانتماء“٦. إن الإضراب بصفته أداءً نقل أشكال الانتماء باتجاه إثبات الهوية الطبقية٧. سمح لنا الامتناع الجماعي عن العمل بالتفكير بقدرة العمل الكامنة في المحافظة على النظام كما هو، وإدراك إمكانياته الجماعية، تجبر هذه الممارسة المعتمدين منا على مدخول على أن نرى أنفسنا عمالًا (مع أخذ الفروق الكبيرة بيننا بعين الاعتبار)٨. بالإضافة إلى ذلك، يشكل التلويح بعدم اعتماد العمل السياسي الفاعل على النظريات القوية والتواصل البارع، وإنما على التحرك الجماعي، نقلة كبيرة من شكل السياسة المهيمن منذ عقود والذي يقوم على الحزب والأشخاص. هذه النقلة السردية في نظرتنا إلى الاقتصاد السياسي وعلاقتنا معه، نقلة كبيرة. هي في صلبها عمل ثقافي ذو تبعات سياسية عميقة. إن هذه الأعمال الثقافية الجماعية والممارسات السياسية الشعبية هي بالتحديد القادرة على أن تمنحنا شيئا نتطلع إليه، في ظل مناخ الإنهاك والغضب وضيق الخيال. إن إعادة إحياء هذا العمل الثقافي-السياسي-الجماعي القادر على إحداث التغيير خطوة أساسية في أوقات اليأس المستفحل التي نعيشها.
العمل السياسي بصفته عملًا ثقافيًا
العمل الثقافي سياسي دومًا٩. إن قراراتنا وموادنا ومراجعنا ولغتنا ومصادر تمويلنا، نحن منتجات ومنتجي الأعمال الفنية من نصوص مكتوبة ورقص وسينما، لها تأثير عميق على السرديات التي نشتبك معها أو نتمسك بها أو نتحداها، حتى عندما لا تكون خياراتنا متخَذة بوعي تام. تؤثر هذه الخيارات بالمقابل على أصداء عملنا وما يُحدث عندما يجول العالم.
السياسة بدورها عمل ثقافي أيضًا. يظهر أن أكثر السياسيين قمعًا على دراية بهذه الحقيقة عندما يستغلون أطرًا موجودة مثل الطائفية كي يحققوا غايات مادية. تعمل السياسة على مستوى التحرك المادي (مثل بناء أو منع بناء سد مائي) وعلى مستوى المعنى والتمثيل (سردية زيادة السدود الكبرى من إمكانية الوصول إلى المياه ضد سردية أن لهذه الزيادة تبعات لا تعد ولا تحصى على سبل العيش وعلى الأنظمة البيئية). إن هذا النوع من التبعات المادية — التي نستطيع مواجهتها، والتي يسميها الاقتصاديون ”مفاضلات“ — وكيفية تفسيرها يعتمدان بشكل كبير على أطرنا الثقافية المتغيرة على الدوام. وكما يذكرنا ستوارت هول، فإن العمل الثقافي موقع نضال مهم. هذا ليس مجرد كلام يسعى لإنتاج ثقافة شعبية تقويضية، بل هو يهدف إيضًا لموازنة التبادل بين العمل السياسي والثقافي في خلق ”احتمالات لذاتيات جديدة“. يعتبر خلق الذاتيات الجديدة، أو ابتكار وسائل تمكننا من أن نكون مع بعضنا البعض في العالم، مادة التغيير السياسي التي نحتاجها عندما يضيق الأفق.
يسمح لنا هذا المفهوم الموسع للعمل الثقافي أن نرى قدرة أشكال التضامن الجماعية على إحداث اختراقات. تفتح الأعمال الثقافية، مثل الإضراب العام في ٢٠١٩-٢٠٢٠، طرقًا وإمكانيات جديدة. حصل مثال شبيه في أعقاب ٤ آب، عندما رفض عناصر الدفاع المدني توجيه آلياتهم ضد المعتصمين. أضاف موظفو الخدمة المدنية هؤلاء العصيان المدني ولوقت قصير إلى أشكال الاعتراض العديدة، متأثرين بالخسارة الإجرامية لأرواح زملائهم قبل بضعة أيام. في كانون الثاني ٢٠٢٠، أنجزت النساء أيضًا عملًا ثقافيًا عندما وقفت ”الجبهة النسائية“ بين الجيش وبقية المعتصمين، مصرات على أن التصعيد مضر بهذه اللحظة (وذلك ليس فقط لأن ”كونهن نساء“ يجعلهن ”سلميات بالفطرة“). تدحض كل هذه الأعمال أي ادعاء لشخص أو مجموعة بالانفراد في إنجاز العمل.
إن التوثيق بحد ذاته غير كاف لإقناع كل من لا يعترفون بعنف النظام، أو التواقين للتغيير ممن لا يجدون بديلًا عن الواقع الراسخ في نظام التبعية الكولونيالية والإقطاعية. علينا أن نحدث اضطرابًا وتغييرًا في علاقتنا مع هذا الإرث التاريخي بمنطق مختلف كليًا من خلال كل من العمل السياسي والثقافي. لكن كيف نفعل ذلك؟
عندما نغير منظورنا بهذا الشكل، يصبح بإمكاننا التمعّن في قدرة الإنتاج الثقافي بشكله التقليدي على تعزيز هذه الممارسات الثقافية وغيرها وتكرارها وإفساح المجال لها كي تتضاعف. لا أتحدث هنا فقط عن المجموعات الثقافية المختصة التي تنتج أعمالًا تدعم النضال١٠ بل كذلك الأعمال الأساسية، مثل الأعمال الذي تقوم بتحليل الصدمة. لكن أهمّ ما علمتنا إيّاه الثورات من ٢٠١٠ هو أن الفن الذي يوثق العنف السياسي ويحتفي بالتجمعات الشعبية أو يتتبع التحولات الشخصية لأفراد في سياق سياسي راكد، غير كاف لجلب التغيير. إن التوثيق بالتأكيد له استخداماته للطموحات المستقبلية بمحاكمات جرائم الحرب، ولحشد الآراء الخارجية، ولكنه بحد ذاته غير كاف لإقناع كل من لا يعترفون بعنف النظام، أو التواقين للتغيير ممن لا يجدون بديلًا عن الواقع الراسخ في نظام التبعية الكولونيالية والإقطاعية. علينا أن نحدث اضطرابًا وتغييرًا في علاقتنا مع هذا الإرث التاريخي بمنطق مختلف كليًا من خلال كل من العمل السياسي والثقافي. لكن كيف نفعل ذلك؟
أودّ، في خضم حالة انعدام اليقين هذه، أن أتخيل النتائج التي قد يؤدي إليها انتهاج الإضراب العام شكلا تعبيريا. . كيف يمكن للإضراب المرتبط باعتمادنا على بعضنا البعض أن يؤثر على أشكال العمل الثقافي الأكثر تقليدية وكيفية ممارسته؟ ماذا يمكن أن يحصل للفن إذا سعينا لأن نكون أكثر شمولًا، مثل الإضراب العام في صيغته المثلى؟ ماذا سيحصل للفن إذا استمعنا بجدّية لناقدي الإضراب العام، من المصرين على ضرورة أن يضم الإضراب الشامل الأعمال المتعلقة بالإنجاب والرعاية، كما هو الحال في إضراب النساء١١؟ يعني ذلك بداية التصالح مع فكرة عدم وجود عمل فني من تأليف شخص واحد بشكل منفرد، وهذا سيقضي على خديعة العبقرية الفنية١٢، وقد يُحدث أيضًا إعادة توجيه لصناعة الفن ونشره بحسب مبادئ الرعاية والتضامن.
تقول الصحافية الرومانية المتخصصة بالأفلام ديانا ميسيان إن الإضراب يمثل أقصى تعبير عن التضامن، إلا أن له حدوده. استوعبتُ أنا هذه الحقيقة مجازيًا وفعليًا: التحرك الجماعي قد لا يكون شاملًا أبدًا، إلا أن أولئك الذين لا يشاركون فيه (أو يكسرون الإضرابات، على سبيل المثال) لديهم غالبًا أسباب مقنعة، حتى لو لم تُعجبنا. إن تبعات النضال العمالي الخاسر ليست في الغالب مستساغة. من المهم أن نتذكر هذا. على الرغم من احتفائي بالإضراب العام، إلّا أني لا أنظر لدينامياته على أرض الواقع نظرة رومانسية. لكن ربما لأن واقعنا الحالي غرس صنوفًا غير متخيلة من الرعب في صلب حياتنا اليومية، صار علينا أن نذهب بأحلامنا خارج حدود التضامن. بإمكاننا أن نتعامل مع هذه الاستفزازات بشكل يجعلنا أشد صرامة في نقد الذات، وأكثر كرمًا مع بعضنا البعض. يمكن لهذه الطموحات أن تقود إنتاجنا الثقافي كما ممارستنا السياسية، حتى في هذا الوقت الذي يبدو فيه الإضراب العام الشامل — موقِف عجلة الاقتصاد والمطيح بالأنظمة — بعيد المنال. هل من شعور أرحب من الثقة المتبادلة والرعاية الجماعية، ووضع مصائرنا بين أيدي بعضنا البعض؟ أليس ذلك المغزى من الإضراب العام؟
تحاول الرأسمالية العالمية وحكوماتنا أن تحل أزمات اليوم المتداخلة، كما كانت تفعل مع الأزمات السابقة، من خلال السعي لعودة الأمور إلى ما كانت عليه، إذ أن حل الأزمات مربح.
تحاول الرأسمالية العالمية وحكوماتنا أن تحل أزمات اليوم المتداخلة، كما كانت تفعل مع الأزمات السابقة، من خلال السعي لعودة الأمور إلى ما كانت عليه، إذ أن حل الأزمات مربح. يتجلى لنا أكثر من أي وقت مضى أن حيواتنا اليوم، خلال الجائحة والانفجار والأزمة المالية، هي نتيجة منطقية لما كانت عليه الأحوال في السابق. علينا أن نقاوم تحويل معاناتنا إلى سردية تبرر المزيد من المعاناة. عدم البحث عن بدائل يعني أننا نرفض قدرتنا على العيش بأي شكل آخر. هنا تكمن مسؤوليتنا (والمسؤولية لا تقتصر على العاملين في ”الثقافة“) في إنجاز هذا العمل الثقافي الصعب والجماعي وغير الموقَّع كي نخلق هذه الإمكانات، خاصة في وقت تبدو فيه أشد استحالة. إننا مسؤولون عن تعزيز الأعمال السياسية-الثقافية الصغيرة والقادرة على أن تحدث تغييرًا، والتي تحدث في كل مكان حولنا، وعلينا أن نصرّ على إفساح مجال كافٍ كي تتمكن هذه الأعمال من إرشادنا إلى طريق مختلف للأمام.