تعاونية "الدّكّانة" الصغيرة: عن إمكانية تفعيل التضامن
في اليوم ٥٥٨: الاثنين الواقع في ٢٦ نيسان
"أذكر أنّ أهلي كانوا يأتون على موضوع التعاونيات كثيرًا أثناء الحرب الأهلية، وأنّهم كانوا يمتلكون بطاقة انتساب". الكلام على لسان نادين معوّض، ناشطة نسوية وإحدى مؤسسات تعاونية الدّكانة الاستهلاكية ، التي كانت تسرد شيئًا من ذكريات طفولتها. كانت أسر كثيرة في تلك الأيام تنتسب إلى التعاونيات على امتداد لبنان، والتي تعود ملكيتها للمجتمعات، وكذلك إلى الشبكات التعاونية، التي ساهمت في التخفيف من الأعباء الاقتصادية اليوميّة.
أعاد الانهيار الاقتصادي في لبنان خلال السنتين الماضيتين صور الحرب البشعة إلى أذهان من عاشوها: الليرة اللبنانية في سقوط حرّ مرّة أخرى، وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة بات أمرًا معتادًا في كافة أنحاء البلد، أمّا طوابير الناس المصطفين أمام محلات السوبرماركت ومحطات الوقود سعيًا للحصول على حاجاتهم الأساسية المستوردة التي وصلت أسعارها إلى مستويات فادحة مع تقلّص توافرها فقد صارت مشاهد يوميّة.
في الرابع من آب عام ٢٠٢٠، بعد مرور حوالي عام على بداية الأزمة الاقتصادية، وقبل أن يحلّ دمار الانفجار على بيروت، كان نادين معوض ومحمد علي قطنجي يستلمان مفاتيح المحلّ ذي الواجهتين في حيّ البسطة التحتا البيروتي. لم تمضِ سوى لحظات على دخول قطنجي ومعوّض سيارتهما حتى أتى الانفجار على واجهتي المحلّين الزجاجيتين، ممّا أعاق خطتهما لانشاء تعاونية في الحي.
تمكّن الناشطان مع نهاية شهر تشرين الأوّل من إتمام الإصلاحات الضرورية وصار المحلّان جزءًا من تعاونية الدّكانة، وهي تعاونية محلّات بقالة بدأت عملها بفريق صغير مكوّن من خمسة أشخاص. تجاوز عدد المنتسبات والمنتسبين اليوم المئة، والذين يدفعون رسومًا شهرية زهيدة بدءًا بخمسة آلاف ليرة مقابل الحصول على المواد الغذائية والحاجيات الأخرى بسعر الكلفة.
يقول المنظمان إنّ تداعي الاقتصاد يحتّم تطوير نماذج عمل تعاوني مبتكر ييسّر المشاركة المجتمعية في الاقتصاد والمساواة في تحصيل الثروة وتوزيعها.
التعاونيات هي مشاريع اقتصاد تضامني يملكها المنتسبات والمنتسبون ويحكمونها ويديرونها، وهي تهدف إلى الوقوف عند الاحتياجات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية المشتركة في المجتمع، كما توفّر مساحة يستطيع النّاس العمل فيها سويًّا بديمقراطية ومساواة.
ماهر أبو شقرا باحث، وناشط اجتماعي، وعضو في جمعية دليل تضامن، وهي منظمة غير حكومية تمسح مختلف المشاريع والتجمعات التضامنية وتربط بينها وتدعمها. يعرّف أبو شقرا الاقتصاد التضامني بأنّه "قطاع ثالث" تكون فيه "الأنشطة والمشاريع الاقتصادية مبنية على التضامن، وهو مستقل عن القطاع العام ومبادئه وطرق إدارته تختلف كثيرًا أساليب ومبادئ القطاع الخاص القائم على مراكمة الأرباح والثروة. الثقافة هنا مختلفة".
وهذه هي الثقافة التي ترعاها الدّكانة.
"نريد أن تكون أسعارنا منخفضة حتى يستطيع الناس تأمين حاجاتهم، وبهدف الضغط على المحلات التي تحاول استغلال الأزمة عبر جعلها تتنافس مع أسعارنا"، وفق ما قال مدير عمليات المشروع كريم حكيم.
"[نموذج التعاونية] يتيح للناس السيطرة على مواردهم، وأصولهم، وعملهم، محدثًا بذلك التغيير."—دانا عابد، باحثة
التعاونية "نموذج جيّد ينبثق عن المجتمع ويشارك فيه الجميع بشكل حقيقي، إذ يتيح للناس السيطرة على مواردهم، وأصولهم، وعملهم، محدثًا بذلك التغيير"، كما قالت دانا عابد، الباحثة في أوكسفام، والتي أدارت ندوة نقاشية حول التعاونيات العالمية خلال مؤتمر "الاقتصاد الديمقراطي" الذي انعقد في شهر نيسان الماضي.
يمكن إنشاء تعاونيات في مختلف الأنشطة الاقتصادية، فهناك تعاونيات في مجالات الزراعة، والإنتاج، والبيع بالتجزئة، والإسكان، والحِرف، وبين المستهلكات والمستهلكين كما هي الحال في تعاونية الدّكانة. تقول دانا عابد إنّ "مفهوم التعاونيات ليس جديدًا في لبنان، لكنّه يستعيد شيئًا من شعبيته بعد الأزمة الاقتصادية وكلّ ما مررنا ونمرّ به".
استلهمت تعاونيّة الدّكانة فكرتها في الواقع من نموذج التعاونيات الذي كان سائدًا في لبنان في السبعينيات والثنينيات من القرن الماضي. كانت التعاونيات في ذلك الوقت زراعية وضمّت مزارعات ومزارعين كانوا يتناقشون بشكل جماعي أسعار البيع وتكاليف المواد التي يحتاجونها. كانت التعاونيات الاستهلاكية منتشرة أيضًا، حيث ضمّت أسرًا كانت تدفع اشتراكات عضوية أو تشتري أسهمًا في المتاجر المحلّية من أجل أن يصير لها دور في انتقاء المنتجات التي تعرض للبيع، ومن أجل أن تستفيد من الشراء بأسعار مخفّضة.
على الرغم من أنّ التعاونيات، باعتبارها بدائل شعبية لاقتصاد السوق، تبدو واعدة إلّا أنّها تواجه مشكلات هيكلية. تقف الأطر القانونية المعرقلة، والنقص الحادّ في التمويل، والريعية السياسية عائقًا في وجه تحقيق الإمكانات الكامنة لهذه التعاونيات على نطاق أوسع. تحدد ورقة دراسات صادرة عام ٢٠٢٠ عن المركز البحثي "تريانغل" بعض هذه المزالق.
ظهر أوّل إطار قانوني للتعاونيات في لبنان خلال الحقبة الشهابية (١٩٥٨- ١٩٧٠)، وقد منح التعاونيات امتيازات من قبيل الاعفاءات من ضريبة الدّخل، وضريبة الأراضي، وأشكال مختلفة من رسوم الطوابع المالية. لكنّ هذا الإطار القانوني مبهم، وغير مصمّم ليشمل تعاونيات تعمل في قطاعات مختلفة، ولم يعدّل منذ عام ١٩٨٣ وفقا لتقرير صادر عن منظمة العمل الدولية عام ٢٠١٨.
تلقّى قطاع التعاونيات عام ٢٠٠٠ ضربة عندما جرى حلّ وزارة الإسكان والتعاونيات. أصبحت المديرية العامة للتعاونيات تابعة لوزارة الزراعة التي تشرف على التعاونيات في جميع القطاعات. تعطي الوزارة الأولوية للتعاونيات الزراعية من خلال سياساتها وأعمالها، ممّا جعل التعاونيات غير الزراعية تحظى بدعم أقلّ من ذلك الذي تحظى به التعاونيات الزراعية. كذلك يتقيّد عمل التعاونيات عبر النظم الصارمة التي لا تتضمن تشريعات مرتبطة بكل قطاع على حدة، ممّا يعيق نموّها بين القطاعات وتوسعها الجغرافي.
إضافة إلى ذلك فإنّ توزيع المهامّ، والواجبات، وصيغ العمل داخل المديرية بات غير واضح مع نقص الكوادر ونقص التمويل، ممّا يصعّب تسجيل التعاونيات الناشئة مثل تعاونيّة الدّكانة.
تقف الأطر القانونية المعرقلة، والنقص الحادّ في التمويل، والريعية السياسية عائقًا في وجه تحقيق الإمكانات الكامنة لهذه التعاونيات على نطاق أوسع.
تكرّس غلوريا أبو زيد، المديرة العامة للتعاونيات في وزارة الزراعة، جهودها على حلّ التعاونيات غير الناشطة، وذلك أساسًا من أجل كبح مخالفات الطبقة السياسية التي تستغلّ قطاع التعاونيّات للحصول على إعفاءات ضريبية لمشاريع ربحية ومشاريع أخرى لها غايات سياسية وطائفيّة. وقد تزامن انطلاق تعاونيّة الدكّانة في البسطة التحتا مع حلّ ٣٠٠ تعاونيّة.
أخذ الحذر أكثر من اللازم خلق المزيد من العقبات في طريق التسجيل عن غير قصد.
ليست التعاونيّة من بين الـ٨٧٥ الّتي لا تزال مسجّلة عام ٢٠٢١. لم تستطع القائمات والقائمون على المشروع إتمام التسجيل حتّى الآن لأنّ العملية تحتاج إلى العديد من الوثائق ودراسة إقتصادية اجتماعيّة متعبة. وهم لا يستيطعون من دون الترخيص التجاري الحصول على السلع المدعومة وإيصالها إلى المستهلكات والمستهلكين (ذوي الدخل المحدود بغالبيتهم).
ليست صعوبة عملية التسجيل السبب الوحيد لقلّة عدد التعاونيات الاستهلاكية مثل الدّكانة نسبة إلى عدد التعاونيات الزراعية، بل هناك أيضًا شبكة تعاونيات لبنان (COOP) الموجودة في جميع المدن الكبرى.
لم تعد شبكة التعاونيات تعمل وفق ما يوحي به اسمها بل صارت سلسلة محلات، حيث أنها خُصخصت عام ٢٠٠٠ بعد فضيحة خسر فيها ما بين ٦٠٠٠ و٢٣٠٠٠ من المودعات والمودعين والمقرضات والمقرضين مليارات الليرات اللبنانية عبر الاحتيال والنصب. ضمت شبكة التعاونيات العديد من التعاونيات الاستهلاكية إليها، محوّلة إيّاها إلى سلسلة واحدة، وفق تقرير صادر عام ٢٠٢٠ عن دليل تضامن.
توقفت سلسلة المحلات، كما هو متوقّع، عن خدمة مصالح المشتركات والمشتركين، كما قالت لنا السيدة أم علي التي تفضّل الآن التسوّق في الدّكّانة التي تنتسب إليها منذ عدّة أشهر.
"الأسعار جيّدة ونوعيّة السّلع جيّدة جدًّا وفريق العمل لطيف" وفق أم علي. أمّا منال، وهي منتسبة أخرى إلى الدّكّانة فتقول: "أشعر أنّني أوّفر كثيرا [عبر التسوّق هنا]".
قال لنا محمد قطنجي إنّ "الزبائن يصبحون جزءاً من العائلة"، وبالفعل عندما دخلت أم علي إلى الدّكان تبادلا التحيات والنكات بينما كانت تستفسر عن اللبن الذي أتت لشرائه.
"نريد أن يأتي النّاس إلى محلّنا ويتسوقوا بكرامة ثم يخرجوا سعداء مهما كانت حالتهم الماديّة"، حسبما أخبرنا محمد قطنجي الذي أضاف قائلًا "نريدهم أن يكونوا شركاءنا وأن يكون لهم رأي في القرارات التي نتخذها".
يتواصل قطنجي من الزبائن الدائمين، وخاصة المنتسبات والمنتسبين، طالبا منهم إعلامه بطلباتهم من السلع التي يحتاجونها قبل أن يذهب إلى بائعي الجملة كلّ أسبوع. هذه خطوة بسيطة نحو إشراك المجتمع بعملية اتخاذ القرارات في الدّكانة.
"يقوم عمل التعاونيّات على النقاشات بين المساهمات والمساهمين الذين يعملون على تحقيق مصالح مشتركة واتخاذ قرارات تخدم الأغلبيّة"، وفق ما تقول نادين معوّض. "هناك جزء من هذا العمل لا يتعلّق بالسلع والمال بل بالعمليّة الديمقراطية التي تتيح للمنتسبات والمنتسبين اتخاذ قرارات متعلّقة بطريقة إدارة المحلّ وفقًا لمصالحهم".
يبدو نظام الانتساب للتعاونية ناجحًا حتّى الآن، حيث أنّه يضمن أن تحصل المنتسبات والمنتسبون على أسعار منخفضة ويشجعهم على اعتبار أنفسهم شركاء في تملّك المشروع.
لا تكفي اشتراكات المنتسبات والمنتسبين لتحقيق الاستدامة للمحلّ، وبالتالي فهو لا يزال يعتمد على التبرّعات الشخصية وعائدات البيع الآتية من غير المنتسبين (هؤلاء يدفعون زيادة بنسبة ١٠ في المئة على أسعار السّلع) من أجل تأمين الإيجار والفواتير.
لا تحقق الدّكانة أرباحًا وهي لا تزال في المرحلة التجريبية. كلّما ازداد حجم الانتساب كلّما صار احتمال تحقيق الاستدامة - وربّما التوسّع في مناطق أخرى - أكبر.
تعاني نصف التعاونيّات المسجّلة من صعوبات ماليّة، وفقًا لدليل تضامن، بفعل التغيّر المستمرّ في سعر الدولار، وضعف القدرة الشرائية للمستهلكات والمستهلكين، وغياب السياسات الداعمة لقطاع التعاونيّات.
"هناك جزء من هذا العمل لا يتعلّق بالسلع والمال بل بالعمليّة الديمقراطية التي تتيح للمنتسبات والمنتسبين اتخاذ قرارات متعلّقة بطريقة إدارة المحلّ وفقًا لمصالحهم ."—نادين معوّض، مؤسسة
يفسّر هذا تحوّل عدد من التعاونيّات نحو محاولة الحصول على منح وتبرّعات دوليّة من أجل الصّمود في ظلّ الأزمة. لكنّ الاعتماد على التمويل الأجنبي يضعف استقلاليّة التعاونيّات ويزيد الشكوك حول إمكانية الاستدامة.
يؤدّي غياب الدعم المركزي والتمويل الآمن إلى جعل التعاونيات عرضة لإساءات الجهات التجارية والريعية الطائفيّة، وفق تقارير مدير ”تعاونيات لبنان“ السابق منير فرغل. استحوذ كلّ من الأحزاب الطائفيّة والمترشّحون للبرلمان على نموذج التعاونيّات من أجل مصالحهم السياسيّة بشكل يناقض تمامًا جوهرها القائم على توجه يبدأ من القاعدة وليس الرأس، وعلى فتح الانتساب للجميع، والاستقلاليّة.
حافظت تعاونيّة الدّكّانة على استقلاليتها وتجنّبت التعامل مع المجموعات السياسيّة في الجوار رغم وجودها في منطقة مسيّسة بشكل كبير. عندما يسأل الزبائن عن الميول السياسية للمؤسسات والمؤسسّين تكون الإجابة المدوّية: "هذا محلّ بقالة تعاوني موجود لخدمة النّاس".
يوثّق فريق الدّكّانة حاليّا جميع خطوات الانطلاق والعمليات، وستتوضع جميع الأخطاء، والدّروس المستفادة، والانتصارات الصغيرة، وملاحظات المنتسبات والمنتسبين ضمن "برنامج عمل" يرغب فريق التعاونيّة بكتابته ومشاركته على موقعها الإكتروني لتشجيع الآخرين وتوجيههم نحو تكرار النموذج.
إن مبادئ التنظيم الشعبي والانتساب المفتوح، وتبادل الأرباح، والخدمة الحقيقية تبدو صغيرة لكنّها تشكّل خطوات أساسيّة نحو تحقيق اقتصاد قائم على المساواة. في هذا السياق تقول نادين معوّض: "نريد أن نبقى بعيدين عن مبادئ الجمعيّات الخيريّة. نستفيد جميعًا من هذا النموذج ولا أحد هنا يقدّم إحسانًا كما أنّ لا أحد يتلقّى مساعدات خيريّة".
"الفكرة بسيطة: عندما نعمل جنبًا إلى جنب نستطيع أن نحقق ظروف عمل أفضل كما نستطيع تملّك قرارنا واختيار ما نريد".