البحث عن علي مينيوفيتش
لماذا نبحث عن مقاتل في الحرب الأهلية اللبنانية بعد نصف قرن على اندلاعها؟ ألا يكفي غرز السكين في الجرح وفتح الصفحات الماضية التي هي أشبه بدفتر كبير من الحزن والدمع، ما أن نسحب منه ورقة حتى تتداعى رفيقاتها و"تطرش" دمًا قديمًا على وجوهنا خلناه تخثّر، فيغدو كالنمش الذي يرافق جلدنا إلى الأبد. هل كانوا ملائكة أو شياطين، أولئك الفتية الذين امتشقوا السلاح في ذلك اليوم من نيسان، أم كانوا يلعبون لعبة الروليت الروسية على جانبي البوسطة التي لم تأخذهم في رحلة لبنان الرومنسي بين حملايا وتنورين، بل بين السواتر الترابية بين عين الرمانة والشياح، واليوم بعد خمسين عامًا قد يعثر أحدنا وهو في طريقه إلى محل للبقالة على ندوب بقيت على الجدران: "الزورو مرّ من هنا" أو "قوات علي مينيوفيتش". هذا الاسم الأخير يرنّ كعملة معدنية سقطت من الجيب في أزقة الشياح، يستذكر حلّاق المحلة الحكاية وتفيق ذكريات الحرب من سباتها كخِلد يقوم من تربة نومه: كان يا ما كان وتبدأ الحكاية، ليعيدها مقاتل متقاعد آخر بنسخة ثانية، وتضاف إليها في كل نسخة تنويعات صغيرة تجعلها أقرب إلى ألف ليلة وليلة بين المتاريس: كانت المدينة قصرًا كبيرًا لأولئك المقاتلين يحفرون بالرصاص على جدرانها نقمتهم على كل شيء: على الرب والشيطان والنظام والأغنياء والفقراء والمذنبين والأبرياء. كان البحث عن علي مينيوفيتش أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، ومن رووا سيرته لم يجمعوا على تفصيل واحد فيها إلا أنه كان جميل الوجه وبهي الطلعة، أما باقي الحكاية، ولاستنقاذها من النسيان، كان علينا أن نهز ذاكرة من نسوا ونستنطق من خرسوا، وكأننا نعثر أخيرًا على تعريف سهل للحرب الصعبة: نسيانٌ أخرَس.
تلفون ١ — زهير ج. مقاتل سابق في الحركة الوطنية
- مرحبا، أستاذ زهير.
- أهلا، ماذا تريد؟
- أبحث عن أي شيء عن مقاتل اسمه علي مينيوفيتش، ذاع صيته في الشياح ومات في أول الثمانينيات.
- ما أغرب هذه الدفاتر التي تحبون فتحها أنتم معشر الصحافيين. خلص. خلص. ما بعرف حدا إسمه علي مينيوفيتش.
- شكرًا.

مساء يوم الأحد في ١٣ نيسان ١٩٧٥، اندلعت اشتباكات في عدة ضواحي بيروت: عين الرمانة ضد الشياح، الدكوانة ضد تل الزعتر، حارة حريك ضد برج البراجنة. ودون وقت لبناء المتاريس، اتخذ المقاتلون مواقعهم في المنازل وعلى الأسطح وحتى فوق السيارات المهجورة في الشوارع التي سرعان ما تحولت إلى ساحات قتال. بيروت، لبنان. ١٣ نيسان ١٩٧٥. (كلود صالحاني، سيغما)
الرواية ١ – أبو عباس س.، قيادي شيوعي
كان أزعر وبلطجيًا، لكن "أخو الشليتة" كان جميلًا، ممشوق القامة، كأولئك الفتيان الشقر الخارجين من أفلام "الوسترن". المصبغة١ أصلاً كانت في ذلك الزمن تسمى حي تكساس. ثلاثة كانوا يمسكون بالشارع: نظمي ش. من جهة التخوم مع قصقص من الميسرة، ورضا ع. من القلب، وعلي مينيوفيتش من الميمنة، من جهة محور الشهيد، على تماس مع معمل غندور وصولاً إلى منتصف شارع الأسعد. جدّه قدم من البوسنة في الفيلق الذي قاتل الحلفاء مع الأتراك في الحرب الأولى وأمه من العديسة. لم يكن بيننا وبينه ودّ، هو في "القيادة العامة٢" التابعة لسوريا ونحن في "منظمة العمل" نرى النظام السوري مثل "عزرائيل". كان زميله نظمي ش. ينصب حاجزاً عند دوار شاتيلا ويفرض خوّة على الجريدة: جريدة الصاعقة ب ١٠ ليرات بدل الربع ليرة، وفي المساء يتقاسم هو وعلي مينيوفيتش الغلة قناني وسكي وصواريخ حشيش. سرت شائعة بأنه يتواجد بين كفرمان وكفرصير في فترة من الزمن. رصدنا كل المقاتلين الشقر، وإذا كان من قتل على الهوية في "السبت الأسود" وغيره، صار القتل في هذه الحالة على السحنة ولون العينين: إن رأيتم رجلاً طويلا أشقر يعطي قليلاً على جيرار دوبارديو الممثل فأردوه على الفور. كانت الثقافة السينمائية للرفيق زين ش. متوسطة القدر، لم يكن يعرف إلا دينيرو في تاكسي دريفر. لتقريب الصورة جرّب مسؤوله الذي يصدر الأوامر أن يضع وجه دينيرو على شعر ديبارديو، ورسم لزين ش. صورة تقريبية لعلي مينيوفيتش الذي لم يره أصلاً في حياته ولو لمرة واحدة.
تقريران في مستشفى النجدة:
-إصابة المقاتل الشيوعي حسين ع. من بلدة يحمر في ساقه بطلقة قناص صديقة، كان حسين ع. قد أهمل قصّ شعره منذ فترة طويلة.
- مقتل الشاب جمال غ. من بلدة النبطية الفوقا بطلقة قناص، وتركت القوى الأمنية في مخفر النبطية التحقيق في الجريمة مفتوحاً، وقد سرت في المنطقة شائعات حول شبه أكيد بين الضحية ومقاتل يشبه أولئك الذين يطلقون النار بمسدسين في أفلام الوسترن ويركلون باب الحانة بأرجلهم ليتحدوا "الشريف" ويأخذوا إلى سريرهم الفتاة الشقراء في الليل.

تقطعت أوصال العاصمة بالمتاريس، زحف المقاتلون عبر متاهة الشوارع المحيطة بالميناء واتخذوا من كل مدخل أو سيارة مهجورة ملجأً مؤقتًا. خلف تلك المتاريس، كانوا يتبادلون فناجين القهوة الساخنة مع بعضهم البعض. بيروت، لبنان. ١٩٧٥. (فرانسواز ديمولديه، غاما ديفيوجنز)
الرواية ٢ – الحاج ناصر، مقاتل سابق في "القيادة العامة"
كنا نعرفه ب"أبو ياسر اليوغسلافي". لم تكن الدنيا كلها في عينه، قاتلنا جنباً الى جنب في حرب الفنادق، كنا حين نفتح كوة في غرفة الفندق لنطارد فرق الكتائب والأحرار والتنظيم تتكشف لنا التحف وشراشف الحرير التي يتحدثون عنها في ألف ليلة وليلة، وخزنات ممتلئة بالعملة الصعبة لو أراد علي مينيوفيتش أن يكدس غنيمة منها لفعل. شاهدته بأم عيني هو و" علي أبو طوق٣" كل من جهة يكمنان تحت سرير خشبي و"يدرزان" مقاتلي اليمين درزاً. كان علي مينيوفيتش من فرقة "المطاردة"، تلك المجموعة من "الجواكر" أو الذئاب الكاسرة المدربة لمطاردة العدو والاجهاز عليه. مرة أخذني معه إلى الحدود وقصصنا الأسلاك الشائكة وتوغلنا في قلب الأرض المحتلة. وقف علي مينيوفيتش قرب شجرة في اصبع الجليل وقال: هنا أعطى الأتراك سمّا لجدي كامل حين مرض أثناء نقله من الناقورة الى بئر سبع، ورأيت دمعة بحجم حبة مشمش صغيرة في عينه اليسرى. كان علي مينيوفيتش جميلاً بهي الطلعة، ولم يكن رجل عصابة، كان رجل عقيدة وإن كان -رحمة الله عليه- يحشش كما كل المناضلين، وكان مركز تثقيفنا في الحرش، مكان مؤسسات الإمام شمس الدين حالياً. لم يُعرف عن علي مينيوفيتش أنه يحب النساء، لكن حين ظهرت "زهرة" في مدرسة الغبيري الرسمية للبنات سلبت عقله: ذهبت وإياه بالـ"لاند" إلى الحمرا ليشتري عطراً، وبنطلون "شارلستون" وقميصاً أرجوانياً مطرزاً بالورود. أخبرني أنه سيهرب وإياها الى يوغسلافيا ليرمي معها بالخبز اليابس للبط عند جسر موستار. كان ينتظرها كل مساء على الباب. أخبره أحدهم أن خطيبها من الخيام وينتمي الى الحزب الشيوعي فجنّ جنونه. أمسك بالمسدس فأطلق النار على خطيبها ثم على نفسه. مرة كنا في دورة في الجزائر في أحد المعسكرات لنجد أنفسنا جميعاً أمام تمثال لـ"أبي ياسر اليوغسلافي". كانت له عينان كعيون الشعراء، كان يحدق في البعيد، في فستان "زهرة" المزركش.