Main Content
خلال المظاهرة السنوية التي تقوم بها العاملات المهاجرات مطالبة بإلغاء نظام الكفالة. بيروت، لبنان. ٥ أيار ٢٠١٩. (حسين بيضون، مصدر عام)

خلال المظاهرة السنوية التي تقوم بها العاملات المهاجرات مطالبة بإلغاء نظام الكفالة. بيروت، لبنان. ٥ أيار ٢٠١٩. (حسين بيضون، مصدر عام)

الثورة اللبنانية: فصل جديد من بؤس نظام الكفالة

اليوم ٧٢، الجمعة ٢٧ كانون الأول ٢٠١٩

 أنزلت الثورة اللبنانية آلاف اللبنانيين إلى الشوارع حاملين طموحاتهم ببلد حر من قبضة النخبة الفاسدة. بدا وكأن اللبنانيين من مختلف الفئات الاجتماعية شعروا بالقوة جراء إحساسهم بأن مصير بلدهم أصبح أخيرا بين أيديهم. لكن بالنسبة للعاملات المنزليات المهاجرات، وهنّ من أضعف الفئات في المجتمع، فإن المشاركة في صناعة لبنان المستقبل ما زالت بعيدة عن المتناول. الكثيرات منهنّ لا يمكنهنّ تخيّل المشاركة في التظاهرات في الشوارع كونهنّ حبيسات في المنازل وممنوعات عن العالم الخارجي، وتعشنّ تحت رحمة مستخدميهنّ، وهذه الظروف مسموح بها حسب نظام الكفالة القمعي.

يتم تكريس المُستخدِم كطاغية من خلال نظام الكفالة، عبر الربط الإلزامي قانونيا بين الوضع الشرعي للعاملات المهاجرات وعقد العمل مع المستخدِمين. الذين بإمكانهم حرمان العاملات من أجورهنّ والتسبّب بأذى جسدي مريع من دون أي عواقب، ما يحول حياة عاملات الخدمة المنزلية إلى جحيم حقيقي. كوني عاملة منزلية سابقة، أسست عام ٢٠١٧ "إنيا لينيا" (نحن، لنا) وهي مجموعة من العاملات المهاجرات الأثيوبيات تعمل من أجل حقوق العاملات المنزليات في لبنان. مع انتشار التظاهرات في البلد بدأت بعض النساء اللواتي نعمل معهنّ بالتساؤل حول ما سيحصل. البعض عبّرنَ عن الخوف من أن تتحول المظاهرات السلمية إلى صراع. وبعضهنّ الآخر شعرن بأمل طفيف بأن تغيير المؤسسة الحاكمة يمكن أن يرفع من مكانة العاملات المنزليات إلى مرتبة بشر يستحقون الكرامة والحقوق الأساسية.

في الوقت الذي تدفع فيه تجاوزات النخب الاقتصادية والسياسية الكثير من اللبنانيين إلى نقطة الغليان، بقي الاستغلال الفظيع من قِبل المستخدِمين من أصحاب البيوت متجاهَلا من قِبل المجتمع اللبناني. رغم وجود أكثر من ٢٥٠ ألفا من العاملات في الخدمة المنزلية في لبنان لكنهن لا يحظين بأي اهتمام فعلي. حتى خلال هذه الثورة، فإن التحركات من أجل المساواة وإلغاء نظام الكفالة بقيت بالمجمل غائبة عن النقاش العام والتحركات، ما خلا استثناءات قليلة مثل نقاش عام أدارته حركة مناهضة العنصرية تشرين الثاني الفائت.

المأساة الكبرى حلت عندما بدأ المستخدِمون يتحجّجون بتدهور الأوضاع الاقتصادية من أجل الإمعان في استغلال العاملات في الخدمة المنزلية من المهاجرات.المأساة الكبرى حلت عندما بدأ المستخدِمون يتحجّجون بتدهور الأوضاع الاقتصادية من أجل الإمعان في استغلال العاملات في الخدمة المنزلية من المهاجرات عبر الحجز على رواتبهنّ مثلا وهي ممارسة شائعة وموثّقة جيدا. رأينا مع الأزمة المالية العشرات من المستخدِمين الأثرياء الذين يدّعون أنه ليس باستطاعتهم دفع الرواتب الضئيلة للعاملات اللواتي يشقَيّن في منازلهم. إحدى النساء اللواتي ندعمهنّ هي أم لطفلين تعتني بهما لوحدها ويتّكلان على راتبها من أجل الطعام وتكاليف المدرسة في إثيوبيا. لم تقبض هذه المرأة راتبها منذ ٦ أشهر ما أدّى إلى وصول وضع أطفالها إلى حالة حرجة. وعندما ترجّت مستخدميها أن يدفعوا ما يدينون لها ضربوها بوحشية فقط لأنها تكلمت في الموضوع، ثم قالوا لها أنه ليس هناك من مال هذه الأيام، وإنّ عليها أن تتحلّى بالصبر وتنتظر حتى انتهاء الأزمة.  

يقوم بعض المُستخدِمين بكل ما في إمكانهم لتجنب أسئلة عائلات العاملات في بلدانهم، عبر منعهنّ من القيام بالاتّصال التلفوني الشهري الوحيد. لقد صادفنا عددا لا يحصى من قصص عائلات تعيش في مناطق نائية في إثيوبيا ليسوا على علم بالوضع الاقتصادي السيئ في لبنان، والذين غدرهم الانقطاع المفاجئ في تدفق الأموال. لقد سبب توقف التحويلات مشاكل مادية خطيرة مثل عدم تأمين الطعام وعدم الحصول على التعليم.  هذا الانقطاع غير المتوقع يسبب أيضا توتّرا في العائلات التي تجد نفسها معلّقة في الفراغ، اذ يتساءل الأهل عمّا حلّ بأمّهاتهم وأخواتهم وبناتهم، خاصة وأنه أصبح معلوما في أثيوبيا أن الكثيرات من العاملات في لبنان ترجعنّ إلى بلادهن في توابيت.   

بعض من المُستخدِمين، وبعد الكثير من الضغط والمطالبة، فقد بدأوا بدفع الرواتب لكن بالليرة اللبنانية ومن دون احتساب انخفاض قيمة العملة المحلية. تعاني العاملات المنزليات اللواتي يقبضن بالليرة خسائر جدية. فالليرة اللبنانية ما زالت مرتبطة بالدولار الأمريكي بسعر رسمي يبلغ ١٥٠٧ في حين وصل سعر السوق في التعامل اليومي إلى أكثر من ألفيّ ليرة. تتحمّل العاملات المنزليات اليوم خسارة لا تقلّ عن ٢٥-٣٠ بالمئة من قيمة مدخولهن بسبب سعر الصرف عند تحويل الأموال إلى بلدانهن.

تساهم الأزمة المالية أيضا في تفاقم ممارسات استغلالية أخرى مثل عدم تجديد الإقامة أو حتى الأسر، بعد انتهاء مدة عقد العمل. يتوجّب على المستخدِم، استنادا إلى قانون الكفالة، تقديم الوثائق اللازمة من أجل تجديد الإقامة قانونيا للعاملة، كما أن من واجبه أيضا دفع ثمن بطاقة السفر للعودة عند انتهاء العقد. في السابق كان الكثير من المُستخدِمين يدعون عدم قدرتهم ماليا على دفع ثمن بطاقة العودة، وما نراه بكثرة مع الثورة هو استغلال حالة الفوضى والكذب على العاملات بالقول إنّ المطار مغلق حتى إشعار آخر. يقوم المستخدِمون عمليّاً بإبقاء العاملات عندهم كرهائن من أجل عدم دفع رسوم الهجرة وتجنب الواجب القانوني بإطلاق العاملات بعد سنتين من انتهاء عقود عملهنّ. وقد أدّى غياب وسائل لمحاسبة المستخدمين إلى جعلهم الآن أكثر وقاحة بسبب الفوضى التي نعيشها.

لقد ساهمت وكالات التوظيف اللبنانية المسجّلة رسميا أيضا في تدهور أوضاع العاملات إلى الأسوأ خلال الأشهر القليلة السابقة. لقد رأينا العديد من الحالات التي لعب موظفو الوكالات دور الوسطاء، وبدلا من فرض عقد العمل على كلٍ من المُستخدِم والمُستخدَمة، يسعى هؤلاء الموظفون للوصول إلى الربح بطريقة غير قانونية عبر الاستيلاء على حقوق العاملات. هؤلاء الوسطاء يعقدون اتفاقات غير قانونية مع أصحاب البيوت تعلق بسببها العاملات في فخٍ يتحول إلى دورة مغلقة من العبودية المستمرّة. تعمل النساء بشقاء في منزل تلو الآخر بلا راتب في حين يقبض الوسطاء الأموال من مصادر عدّة. وأكثر من ذلك، يمتنع الوسطاء عن دفع الرسوم لقوننة وضع العاملات ما يحوّل وجودهنّ في البلد إلى غير شرعي. بالنسبة للعاملات فإن خطر مقاومة هذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى تدخل السلطات وترحيلهنّ بسرعة.     

العاملات اللواتي يهربن من مستخدِمين ظالمين تعشّن في منازل مستأجرة وتعملن خلال النهار، عادة بطريقة غير شرعية، وهؤلاء أيضا لم يستطعن تجنّب مؤثّرات الأزمة الاقتصادية. العديد منهنّ طُردّن من عملهنّ أو قيل لهن أن لا مال لدفع الرواتب. هؤلاء العاملات تحررن من السجون التي عشن فيها يوما، لكن رغم ذلك فإنّ لديهن مصاريف إضافية تتحملّنها، من قبيل مصاريف التنقّل والإيجار والطعام، وتزداد صعوبة وضعهن أكثر فأكثر. لقد صادفنا حالة أمٍّ اضطرّت لترك طفلها في ميتم لأنها لم تعد قادرة على توفير الطعام. ما زال هذا البلد لا يوفّر أي بدائل جاهزة او آليات لإنقاذ أكثر أعضاء المجتمع هشاشةً.

بعد أشهر على انطلاق الانتفاضة، للأسف، لا تعتبر العاملات المنزليات الثورة أمرا يعنيهن، ولا تتوقعّن أن تكون حاجاتنا جزءا من التغيير الذي يقوده المحتجّون.أنا على علمٍ كامل بأن الكثير من العاملات والعمال اللبنانيون بلا عمل ويخسرون تدريجيا جميع مدخّراتهم، فنحن نتابع الأخبار أيضا. تخفيض الرواتب وحجز الأموال من قبل المصارف والاخبار عن الرجال الذين ينتحرون بسبب عدم قدرتهم على إعالة عائلاتهم، كلها أمور صادمة لضمائرنا أيضا. لكن الكثير من اللبنانيين القادرين ماديا يرون في عدم الاستقرار الاقتصادي الحالي فرصة لحجز العاملات كرهائن والحصول على عملهن مجانا، الأمر الذي يهدد وجود العاملات الآتيات من أفريقيا وأسيا، اللواتي تعشن في خطر أساسا. بعد أشهر على انطلاق الانتفاضة، للأسف، لا تعتبر العاملات المنزليات الثورة أمرا يعنيهن، ولا تتوقعّن أن تكون حاجاتنا جزءا من التغيير الذي يقوده المحتجّون. لقد عبّر الناشطون والناشطات من جمعية "كفى" وحركة مناهضة العنصرية عن تضامنهم معنا، لكن الدعم الملموس يبقى قليلا جدا. أملي هو أن يقوموا يوما ما بفتح النقاش المجتمعي الضروري حول مكانة العاملات المنزليات في المجتمع اللبناني وكيفية تغيير أوضاعهنّ للأفضل.

بانشي يمير

بانشي يمير هي عاملة منزلية سابقة عاشت في لبنان لحوالي عقد من الزمن. أسّست مع عاملات مهاجرات من أثيوبيا مؤسسة مجتمعية اسمها "إنيا لينيا" (وتعني نحن، لنا). تعمل الجمعية على قضايا عاملات الخدمة المنزلية المهاجرات وعلى قضايا المرأة في لبنان وأثيوبيا.

ساسين كوزلي

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.