الحياة والموت على الهامش: عن صدمة العُمّال والعاملات الأجانب المُزدوجة
مُلاحظة من المُحرِّرة: إنَّ المعلومات التي لم يُحدَّد مصدرها في هذا المقال تتعلّق بأعضاء حركة مُناهضة العُنصريّة، أو قد وثّقتها الحركة وتحقّقت من صحّتها. أُعِدَّ هذا المقال بالتّعاون مع مصدر عام.
"احتُجِزَت فتاة في منزل كفيلها/كفيلتها" عندما وصلت اهتزازات انفجار هائل إلى المنزل الواقع على بُعد بضعة كيلومترات من مرفأ بيروت.
"لم يكن/تكن الكفيل/ة في المنزل، وكان/ت قد أقفل/ت الباب، و[ترك/ت] الفتاة وحده/ا. وعندما وقع الانفجار، أُصيبت بجروح"، وبقيت عالقة في مكانها.
كانت تلك إفادة غير مُباشرة تلقتها حركة مُناهضة العُنصريّة، وهي مجموعة نسويّة قاعديّة تُركّز في عملها على العُمّال والعاملات الأجانب، من دومينيك، وهي عاملة منزلية من القارة الأفريقية وناشطة ضمن المجتمع المحلي (طلبت منّا استخدام اسم مستعار لحماية خصوصيّتها). تظنّ دومينيك أنّ العاملة المذكورة كاميرونيّة، لكنّها لم تستطع التّيقُّن من هويّتها بعد مرور عام تقريبًا على فوضى الانفجار.
أرسلت العاملة رسائل تناشد فيها للحصول على المساعدة عبر مجموعة مُجتمعيّة على تطبيق واتساب. وكانت دومينيك واحدة من العديد من المُتلقّين لتلك الرسائل. وتقول إنّ "أبناء وطنها تواصلوا مع أشخاص ليذهبوا إلى حيثُ كانت في منطقة الأشرفية [وليُنقذوها]". وبفضل مساعدتهم، تمكّنت من الهروب من الشّقّة المُنهارة.
لم يتمكّن مصدر عام من إثبات تلك المعلومات نظرًا لعدم التّمكُّن من الوصول إلى الناجية. وقد روى أشخاص يعرفونها لدومينيك، أنّها فرَّت من البلاد بشكل مُفاجئ بعد الانفجار، مُصابةً بصدمة بالغة.
القصة المُروّعة التي ترويها دومينيك ما هي إلّا مثال صارخ عن المخاطر غير المنطقيّة التي يُولّدها نظام الكفالة.
القصة المُروّعة التي ترويها دومينيك ما هي إلّا مثال صارخ عن المخاطر غير المنطقيّة التي يُولّدها نظام الكفالة. تصف بنشي يمير، وهي ناشطة ومُؤسِّسة مُنظَّمة Enga Lenga (نحن لنا) التي تقودها عاملات منازل أجنبيّات، نظام الكفالة على أنّه "عقوبة سجن من دون جريمة، لعامين وثلاثة أشهر، وهذه مُدّة عقد عمل العاملة المنزليّة الأجنبيّة". فعاملات المنازل الأجنبيّات يقمن بإعالة الأُسر اللبنانية، وفي المقابل يتم عزلهنّ، واحتجازهنّ، وإخفائهنّ عن الأنظار، بنفس الطريقة التي تنتهجها الدولة في التجريم، والسجن، وعزل الأشخاص غير المرغوب بهم عن المجتمع.
لا يمكن فصل آثار انفجار ٤ آب على عاملات المنازل الأجنبيّات، عن وقائع نظام الكفالة والعنصريّة اليوميّة، وهي بُنية قاتلة تُحدّد تجاربهنّ أثناء وقوع حدث كارثي وبعده، وتُقرّر من الأشخاص الذين يجري البحث عنهم والعثور عليهم، أو إنقاذهم، أو معالجتهم، أومن الذين يتركون ليموتوا.
ما حدث ذلك اليوم كان القشة التي قسمت ظهر البعير. فعشيّة المجزرة، كانت العديد من عاملات المنازل الأجنبيّات عاطلات عن العمل، ومُفلسات، ومن غير مأوى، نتيجة الأزمة الاقتصادية في لبنان، وهي واحدة من أسوأ الأزمات عالميا منذ عام ١٨٥٠.
العيش في ظل الأزمة ونظام الكفالة
يتجاوز عدد عاملات المنازل الأجنبيّات الأرقام الرّسميّة التي تقدّرهن بـ ٢٥٠ ألف امرأة من بين ما يُقارب ٧ ملايين مواطن/ة، وعامل/ة أجنبي/ة، ولاجئ/ة، وغيرهم ممّن يُقيمون في لبنان. وتأتي هؤلاء العاملات من أكثر من اثنتيّ عشرة دولة أفريقية وجنوب آسيوية للعمل في لبنان، وبشكل أساسي من إثيوبيا، وبنغلادش، والفلبين.
يُعد نظام الكفالة الذي يحكم إقامة هؤلاء العاملات القانونية ووضعهنّ الوظيفي ركيزةً أساسيّةً لاقتصاد ما بعد الحرب في لبنان والمنطقة. يجعل هذا النظام صاحب/ة العمل كفيلًا/كفيلة للعامل/ة ووصيًّا/وصيّةً عليه/ا. يُؤسّس نظام الكفالة، عبر ربط العامل/ة بأهواء ومزاج وسلطة صاحب/ة العمل، ديناميكيّة أقرب إلى العبوديّة، ولكن بغطاء التوظيف والقبول والتَّحضُّر. وبالإضافة إلى انتهاكات العمل الجسيمة، أبلغ العديد من العمال والعاملات الأجانب عن تعرُّضهم/ن للعنف الجنسي والجسدي، والعَزْل، والأَسْر.
لا يمكن فصل آثار انفجار ٤ آب على عاملات المنازل الأجنبيّات، عن وقائع نظام الكفالة والعنصريّة اليوميّة، وهي بُنية قاتلة تُحدّد تجاربهنّ أثناء وقوع حدث كارثي وبعده، وتُقرّر من الأشخاص الذين يجري البحث عنهم والعثور عليهم، أو إنقاذهم، أو معالجتهم، أومن الذين يتركون ليموتوا.
أصبح وضع عاملات المنازل الأجنبيّات أكثر هشاشة عام ٢٠٢٠ الذي تراكمت فيه الكوارث على لبنان. فقد تلقّت حركة مُناهضة العُنصريّة ٨٥٠ حالة من انتهاكات العمل، أي ما يُقارب ضعف الحالات المُتلقّاة عام ٢٠١٩، تطّلب مُعظمها تدخُّلًا قانونيًّا.
وأرست تدابير الإغلاق جرّاء ڤيروس كورونا واقعًا جديدًا لعاملات المنازل، اللواتي أصبحن عالقات مع كُفلائهنّ داخل المنزل على مدار الساعة. وقد تواصلت ٦٥ امرأة مع حركة مُناهضة العُنصريّة بعد تعرُّضهنّ لعُنف يُهدّد حياتهنّ، أضيف إلى كونهن يعملهن دون توقّف في الليل والنهار.
إضافة إلى ذلك أدى انتقال أصحاب العمل إلى آليّة العمل عن بعد، وانفرادهم باستخدام الاتصال بالإنترنت، وهو بطيء وغير مستقر أصلا، إلى تجريد العديد من عاملات المنازل من حقّهن في التواصل مع عائلاتهنّ.
استخدم أصحاب العمل الانهيار المالي كذريعة لعدم دفع الأجور كذلك. وأبلغت عاملات المنازل الأجنبيّات حركة مُناهضة العُنصريّة عن ١٤٣ حالة من عدم تلقّي الأجور و١٤٥ حالة من نوع جديد من انتهاكات العمل، تمثّل في إلقاء العاملات في الشوارع، من دون رواتب مُتأخّرة، أو جوازات سفر، أو حتى أغراض شخصيّة في أغلب الأحيان.
تُجرّد هذه الظاهرة القاسية العمال والعاملات الأجانب من الوثائق القانونيّة، وتُعرّضهم/ن للتّهديد بالسّجن والترحيل على أيدي أجهزة الدولة المُفترسة. في ٤٥ حالة، طُردت العاملات من منازل كفلائهنّ أو أُجبرن على مغادرة المنازل، وتُركن لتدبّر أمورهنّ بأنفسهنّ من دون دخل أو سكن، في خضم جائحة وانهيار اقتصادي.
كانت العديد من عاملات المنازل الأجنبيّات بالتالي يعشن على دخل ضئيل –إذا كان لديهن دخل أصلا– ويُعانين من انعدام الأمن السكني، ومن تزايد عمليات الإخلاء، ومن التّشرُّد في الأشهر التي سبقت ٤ آب. ونظرًا لانتشار هذه المصاعب على نطاق واسع، فإنّ الملاذات الآمنة والشبكات التي استغرق بناؤها عقودًا بدأت في التقلص.
٤ آب وتداعياته
من الصّعب، إن لم يكن من المستحيل، معالجة الصدمة الجماعية والفردية التي خلّفها ٤ آب. آثار الدماء في الشوارع، وطقطقة الزجاج تحت الأقدام المصابة، وعمليات البحث المُرهِقة عن المفقودين المنسيّين...كل ذلك يعود، مرارًا وتكرارًا، لتحطيم أي شعور بالأمان.
أودى الانفجار بحياة لبنانيين وأجانب من دون تمييز، لا سيّما عُمّال المرفأ، وتسبّب بجرحهم وتجريدهم من ممتلكاتهم. إلّا أنَّ جهود الإنقاذ والإغاثة لم تكن عادلة نتيجة العنصرية ونظام الكفالة.
يصف العُمّال والعاملات الأجانب الذين نجوا من الانفجار العيش في صدمة مُزدوجة: أولًا، الصدمة من الانفجار، وثانيًا، اللامبالاة الواضحة حول ما إذا كانوا سيعيشون أو سيموتون.
يصف العُمّال والعاملات الأجانب الذين نجوا من الانفجار العيش في صدمة مُزدوجة: أولًا، الصدمة من الانفجار، وثانيًا، اللامبالاة الواضحة حول ما إذا كانوا سيعيشون أو سيموتون.
تصف دوريس، وهي أم من غانا جاءت إلى لبنان لإعالة ابنتها، كيف وجدت نفسها بعد حالة الذهول الأوليّة من الانفجار"واقفةً في بركة من دمائها" بينما كان أصحاب عملها اللبنانيون يهرعون بابنتهم المُصابة إلى المستشفى، تاركين إيّاها وحدها.
"كان كل جزء من جسدي ينزف. كانت عيناي مُتورّمتين، ولم أستطع الرؤية من خلال إحداهما"، حسبما قالت لمصدر عام. "هم ذهبوا إلى المستشفى من دون أخذي معهم. كنت مُستلقية هناك، أنزف على جانب الطريق، قبل أن تقلّني سيارة إسعاف بالصدفة... لا أعرف ما كان سيحدث لو لم تمر سيارة الإسعاف في تلك اللحظة".
وفي موقع الانفجار، أظهر بعض اللبنانيين العدائيّة والعنصرية بشكل فجّ تجاه العمال والعاملات الأجانب، الذين أكّد بعضهم لحركة مُناهضة العنصريّة رفض العديد من المجموعات التي تُقدّم المساعدات الإنسانية تزويدهم بإمدادات الإغاثة.
وفي حين قيل للبعض، "أنت لست لبنانيًّا/لبنانيّةً، اخرج/ي من هنا، ما من مساعدات لك"، تمّ بالمُقابل الاحتفاء بغيرهم/ن، بشئ من النفاق، على/أنّهنّ "أبطال/بطلات" بعد أن انتشرت تسجيلات كاميرا المراقبة في أحد المنازل، تُظهر عاملة منزلية أجنبيّة وهي تندفع لحماية طفل/ة صغير/ة بجسدها لحظة الانفجار.
تلك اللّحظة التي تبعث على الدفء ليست استثنائية أبداً بل هي جزءٌ من عمل الرعاية اليومية الذي يعتبره عادةً أصحاب العمل بديهيًّا، وغالبًا ما يكون غير مدفوع الأجر، وتؤديه عاملات المنازل الأجنبيّات نيابةً عنهم.
في مواجهة هذه الأشكال من العُنصريّة الصّريحة والضمنيّة، قامت ثلاث منظمات تقودها عاملات أجنبيّات هي Enga Lenga (نحن لنا)، وMeswat وThis Is Lebanon (هذا لبنان)، جنبًا إلى جنب مع حركة مُناهضة العُنصريّة، بحشد جهود الإنقاذ على نحو سريع لتكون حاضرة مرةً أخرى حيث تغيب الدولة.
تواصلت هذه المُنظّمات مع المستشفيات على مدى أسابيع في أعقاب الانفجار، بحثًا في الإحصائيّات غير الرسميّة عن الضحايا غير اللبنانيين.
كذلك تداول المجتمع الأوسع للعُمّال والعاملات الأجانب أسماء وصور أحبائهم المفقودين على منصات التواصل الاجتماعي وفي الشوارع. وقاموا بإنشاء حسابات مُتعدّدة على إنستاغرام لتكون بمثابة قاعدة بيانات خلال عمليّات البحث والإنقاذ.
"تمكنا [في نحن لنا] من العثور عليهم شيئا فشيئا،" قالت يمير لمصدر عام. "كان بعضهم في المستشفيات. والبعض فقد منازلهم وكانوا في الشوارع، أو احتموا في بيوت أشخاص آخرين. كما فقد بعضهم هواتفهم وممتلكاتهم لكنهم تواصلوا لاحقًا مع عائلاتهم. والبعض وُجِدَ في غيبوبة". وتؤكد يمير: "جميع من كانوا على القائمة التي معي على قيد الحياة. بعضهم مصابون، لكننا وجدناهم جميعا".
تُجبَر العديد من عاملات المنازل الأجنبيّات على التخلي عن وثائقهنّ هربًا من بيئات العمل التّعسفيّة، وليس لديهن أسرة، وأصدقاء، ومجتمع محلي، أو أي وصول إلى خدمات الاتصالات، كما أنّهنّ غير معروفات في الأحياء التي يعملن فيها.
كانت نتائج بعض عمليات البحث الأخرى أكثر مأساوية. فمن قائمة تشمل ٥٢ عاملًا أجنبيًّا معظمهم من السوريين، جمعتها حركة مُناهضة العُنصريّة، نجا اثنان فقط، ولم يتم العثور على اثنين، وتوفي ٤٨.
واجهت حركة مُناهضة العُنصريّة خلال عمليات البحث المستمرة هذه منطق الحبس الذي يؤسس له نظام الكفالة ممّا صعّب البحث عن الأشخاص المفقودين والتّعرّف عليهم، بل جعله مستحيلًا في بعض الأحيان.
تُجبَر العديد من عاملات المنازل الأجنبيّات على التخلي عن وثائقهنّ هربًا من بيئات العمل التّعسفيّة، وليس لديهن أسرة، وأصدقاء، ومجتمع محلي، أو أي وصول إلى خدمات الاتصالات، كما أنّهنّ غير معروفات في الأحياء التي يعملن فيها. وبالتالي، فإنّ الأدوات والموارد اللازمة لتعقبهنّ في حالات الطوارئ نادرة، مما يجعل جهود الإنقاذ في غاية الصعوبة.
لا يزال العدد الحقيقي لقتلى الانفجار غير معروف حتى يومنا هذا، ولا تزال الحصيلة الرسمية للقتلى والمفقودين غير مكتملة. وقد استُبعِد الضحايا غير اللبنانيين بشكل رئيسي من العدد الرسمي البالغ ١٩١ قتيلًا، والذي حدّثته آخر مرة وزارة الصحة العامة في أيلول ٢٠٢٠. يقدّر مصدر عام أنّ الانفجار أودى بحياة ٢٥٢ شخصًا على الأقل.
ربمّا تكون هناك قصص غير مرويّة مدفونة تحت أنقاض الانفجار، لا سيّما في منطقة الكرنتينا المُجاورة للمرفأ، حيثُ أحياء الطبقة العاملة التي تدمّرت، والتي لطالما كانت ملجأً للعُمال الأجانب واللاجئين نظرًا للتّكلفة المعقولة لإيجار المساكن المُجتمعيّة.
لم يتم إحصاء بعض ضحايا الانفجار من بين الجرحى والمفقودين والقتلى، لا سيّما في هذه المنطقة.
في ٤ آب، عند الساعة ٦:٠٧ مساءً، صادف أن كان أمين، الذي يعمل في محيط مرفأ بيروت، بعيدًا عن مكان عمله. إلّا أنًّ الحظّ لم يحالف بعض أصدقائه.
قال أمين لمنظمة كونسيرن العالمية Concern Worldwide التي تقدّم مساعدات إنسانية: "كان بعضهم في إجازة، وما نفعله في يوم إجازتنا أنّنا نذهب إلى هناك [بالقرب من المرفأ] ونتسكّع في البار مثل الزّبائن. لكنّ بعضهم فقد حياته [في ذلك اليوم]".
خمسة من أصدقاء أمين "ليسوا على قائمة الضحايا الرّسميّة".
ومن بين ٤٨ عاملًا أجنبيًّا على قائمة حركة مُناهضة العُنصريّة لمن لقوا حتفهم، لم يتم إدراج ٢٨ عاملًا/عاملةً في "قائمة الشهداء" الرّسميّة.
تعكس حالات التغييب هذه موقف الدولة اللبنانية تجاه العمال والعاملات الأجانب، وطالبي اللجوء، واللاجئين. إذ يتم تجريدهم من الإنسانية بشكل منهجي، في أوقات السلم والاستقرار، وفي أوقات الأزمات والمآسي، وفي الحياة والموت.
اتّسمت استجابة الحكومة للانفجار بالتّقصير الشّديد، كما كان مُتوقّعًا. الجيش تكلّف بتوزيع المواد الغذائية، وأصدرت وزارة الصحة تعميمًا لعلاج الجرحى مجّانًا.
وعلى الرُّغم من أنّ المرسوم الحكومي "لم يُميّز ضد غير اللبنانيين أو يُقصيهم" بحسب يُمنى مخلوف، المحامية والباحثة في "المُفكّرة القانونيّة"، فإنّ العُمّال والعاملات الأجانب مُنعوا في الواقع من الحصول على الطعام والعلاج بالمجّان.
ربمّا تكون هناك قصص غير مرويّة مدفونة تحت أنقاض الانفجار، لا سيّما في منطقة الكرنتينا المُجاورة للمرفأ، حيثُ أحياء الطبقة العاملة التي تدمّرت، والتي لطالما كانت ملجأً للعُمال الأجانب واللاجئين نظرًا للتّكلفة المعقولة لإيجار المساكن المُجتمعيّة.
كشفت عاملة أثيوبيّة أُصيبت في الانفجار (تُفضّل عدم الكشف عن هويّتها) لمنظمة كونسيرن العالمية Concern Worldwide أنها اضطرّت لاستخدام دخلها الضئيل لتغطية الفواتير الطُبيّة. "أول طبيب ذهبت إليه كلّفني ٥٠ ألف ليرة لبنانية لمُجرّد زيارته، ثم كلّفتني صورة الأشعّة ٣٥ ألف ليرة، ودفعتُ لطبيب العظام ١٥٠ ألف ليرة... وكل ذلك من راتبي الخاص".
وعلمت حركة مُناهضة العُنصريّة عن عاملة أجنبيّة (تُفضّل عدم الكشف عن هويّتها) أُصيبت بجروح خلال جهود التّنظيف الشاقّة بعد الانفجار، ولم تتلقَّ أي دعم. وتجاهل/ت صاحب/ة عملها مكالماتها ولم تندرج إصابتها ضمن معايير تعميم وزارة الصحّة.
شرحت سارة، وهي ناشطة إثيوبية في مجال حقوق الأجانب، لحركة مُناهضة العُنصريّة كيف تستثني العُنصريّة العُمّال والعاملات الأجانب من توزيع الطعام:"جاء الجيش إلى منزلي ثلاث مرات. في المرة الأولى، عندما أخبرتهم أنني لا أعمل هنا ولكنني أعيش هنا لم يعطوني أي شيء. في المرة الثانية، نظروا إليّ وغادروا من دون إعطائي أي شيء لمجرد أنني سوداء البشرة. أما في المرة الثالثة، فانتهى بهم الأمر إلى ترك صندوق لي لأنّ صاحب/ة المنزل اللبنانيّ/ة طلب/ت منهم ذلك".
"على الرُّغم من أنني لست بحاجة إلى صندوق الطعام، فإنّني أُفكّر في العُمّال والعاملات الأجانب الذين يحتاجون إليه بشدّة".
تحدّثت دومينيك (التي روت قصة العاملة التي احتُجِزَت في منزل كفيلها/كفيلتها أثناء الانفجار) لحركة مُناهضة العُنصريّة عن محاولتها في الحصول على صندوق طعام لصديقتها عندما كان الجيش يُوزّع تلك الصّناديق في الحي الذي تسكنه.
"ذهبت إلى هناك وسألت: هل يمكنني الحصول على صندوق؟ فسألوني: لمن؟ فأجبتهم: لي. فقالوا: لا يمكنك الحصول عليه، إلا إذا كان للسيّدة ["المَدام"] التي تعملين لديها. فقلت: إنّه للمَدام. ثم كان الأمر أشبه باستجواب: ما اسمها؟ أين تعيش؟ في أي مبنى؟ أدليتُ بكل المعلومات التي أرادوها، كما لو أنّ الشرطة تُحقّق معي. ثم أعطوني صندوقًا ورافقني رجل إلى المنزل، وصعد الدرج معي، حتى وصل إلى المطبخ، ليتأكّد من أنّه للمَدام!"
وأضافت: "نحنُ الأجانب، لولا المساعدات الصغيرة من المنظمات غير الحكومية، لكُنّا منسيّين، ولما تذكّرنا أحد. فقد تقاسموها [صناديق الطعام] بينهم [اللبنانيين]. أما نحن، والعاملون والعاملات لحسابهم/ن الخاص، فليس لنا شيء؛ وحُرّاس المباني الأجانب ليس لهم أي شيء منها أيضًا، حتى أنّ بعض أصحاب العمل أخذوا منّا الصناديق التي حصلنا عليها".
إلى جانب التوزيع التمييزي للطعام، ظهر الخوف مرة أخرى بعد يوم من الانفجار، عندما أعلنت الحكومة اللبنانية حالة الطوارئ لمدة أسبوعين، مما ضاعف من المخاطر التي يتعرّض لها العمال والعاملات الأجانب. فبالإضافة إلى اعتبارهم/ن مقيمين/ات "غير شرعيين/ات" لتركهم/ن بيئات العمل المُسيئة، أصبحوا/أصبحن يُعانون/يُعانيْن الآن من قلق الاعتقال الوشيك في أي زمان ومكان، والسَّجن، والتّرحيل.
وأفاد مُتطوّعون في جهود التنظيف لحركة مُناهضة العُنصريّة أنّ رجال الشرطة كانوا يُوقفون الناس في الشوارع لتفحُّص بطاقات هوياتهم، وهو كابوس لأي عامل/ة أجنبي/ة، وخاصة "العاملين/ات لحسابهم/ن الخاص" في لبنان الخاضع لسيطرة نظام الكفالة
سعت عاملات المنازل الأجنبيّات، خوفًا على سلامتهن في بلد قاتل وغير صالح للعيش، إلى العودة الفوريّة إلى أوطانهنّ. بين تموز وتشرين الأول ٢٠٢٠ نظّمن اعتصامات مُستمرة أمام سفاراتهنّ، لا سيّما الكينيّة والكاميرونيّة والسودانيّة، لتسريع عودتهن.
استكملت جهودهنّ مُنظّمات نحن لنا، وهذا لبنان، وحركة مُناهضة العُنصريّة ومبادرتان فرديّتان، عبر آليات الاستجابة العاجلة التي هدفت إلى تنظيم جمع الأموال لتذاكر السفر والدّعم في تجهيز المعاملات الورقيّة.
قدّمت حركة مُناهضة العُنصريّة تذاكر الطيران، وتكاليف النقل وفحص كورونا (PCR)، والاستشارات، والدعم القانوني، وخدمات الصحة النّفسيّة والبدنيّة. غادر العديد من عاملات المنازل الأجنبيّات لبنان في السنة التي أعقبت الانفجار، وقد ساعدت حركة مُناهضة العُنصريّة وحدها في إعادة ٣٠٤ امرأة إلى أوطانهن.
لكنّ العودة إلى الوطن لم تكن سهلة يوماً على عاملات المنازل الأجنبيّات في ظل نظام الكفالة، وهي تزداد صعوبة في هذه الأوقات العصيبة. لم تتمكّن العاملات لحسابهنّ الخاص اللواتي غادرن منازل كفلائهنّ من الحصول على جوازات سفرهنّ، ولا تزال الكثيرات منهنّ عالقات هنا. ولم تستطع أُخريات ركوب الطائرة بعد أسابيع أو أشهر من الاستعدادات، لأنّ نتائج فحوصات كورونا أتت إيجابية.
وتعّين على كثيرات غيرهنّ مواجهة تأخير غير ضروري من قِبَل "القنصليّات الفخريّة" المُهمِلة التي يُديرها رجال أعمال لبنانيّون أثرياء. فعلى سبيل المثال، أفادت عاملات المنازل الكينيّات عن إكراههن على العمل الجنسي مُقابل تغطية رسوم العودة إلى وطنهنّ المُبالغ فيها، وعن "ثقافة الاستغلال والابتزاز في القنصليّة الكينيّة في لبنان".
يشعر بعض العمال والعاملات الأجانب بالتردّد حيال المغادرة، لأن الكثير من الأمور على المحك. فبالنسبة لمن أسّسوا أُسرًا في لبنان، تُعدّ نفقات السفر الباهظة ثانوية مُقارنةً بتكلفة الانفصال عن أُسرهم.
كذلك واجه بعضهم ظروفًا منعتهم من تسجيل أطفالهم، مما يتركهم من دون جواز سفر. في حالات أخرى، عندما ينحدر الآباء من بلدان مختلفة، يتعيّن على الأطفال ترك أحد الوالدين من أجل البقاء مع الآخر، وهي خسارة مأساوية للأسرة. وفي بعض الأحيان، تكون العودة إلى الوطن بمثابة مُقامرة بالحياة.
أخبر داڤيد، وهو عامل أجنبي من نيجيريا، حركة مُناهضة العُنصريّة أنّه فكّر في العودة بعد أن وجد نفسه في حالة يُرثى لها في أعقاب الانفجار لكنه لم يتمكّن من ذلك، خشيةً على حياته.
"كنتُ في منطقة الدورة عندما وقع الانفجار. أُصيبت ساقي، وأُصيبَ جسدي بجروح. أخبرني صاحب المنزل الذي أقطنه أنه يجب عليّ مغادرته لأنه يريد إصلاحه، لكنني أعلم أنّه أراد زيادة الإيجار ومنحه لشخص آخر. وتعرّض مكان عملي لأضرار بالغة. سقط السقف بالكامل. وطُرِد الجميع من العمل باستثناء العمال اللبنانيين والأرمن".
وعلى الرغم من أنّه عاطل عن العمل وغير قادر على إعالة نفسه، فلم تكن الهجرة إلى مكان آخر خيارًا أمامه. قال داڤيد لحركة مُناهضة العُنصريّة في تموز: "ما زلت غير قادر على إيجاد عمل بسبب الإصابة في ساقي. أعيش مع أصدقائي في منطقة النّبعة. وأتلقّى الكثير من الإهانات لأنني لا أستطيع المساهمة في الفواتير. فكّرت في العودة إلى وطني، لكنّ الوضع دموي في نيجيريا. وطني غير آمن لي".
تدفعنا هذه الأزمة المُروّعة على إعادة تقييم الحاجة المُلحّة لاحتضان ودعم نصف سكان هذا البلد الذين دعمونا وأعالونا لعقود، بدلًا من مُعاملتهم بكراهية وعزلهم.
إنّ آلاف العمال والعاملات الأجانب مُحاصَرون في لبنان، من دون خيار سوى تحمُّل أعباء الأزمة الإنسانيّة والاقتصاديّة والسّكنيّة مثل الجميع، ولكن في ظل شروط أسوأ. ونظراًً إلى أن التعامل مع الوضع يتمّ فقط عبر المبادرات التي يقودها العمال والعاملات الأجانب والتي تُركّز على مجتمعاتهم، فقد اضطر بعضهم إلى التّشرّد، في حين يُعاني البعض الآخر من ضائقة صحيّة نفسيّة شديدة.
تدفعنا هذه الأزمة المُروّعة على إعادة تقييم الحاجة المُلحّة لاحتضان ودعم نصف سكان هذا البلد الذين دعمونا وأعالونا لعقود، بدلًا من مُعاملتهم بكراهية وعزلهم. إذ لا يمكننا الاستمرار في استغلال العمال والعاملات الأجانب تحت عباءة نظام الكفالة وأشكال أخرى من الظُّلم المُمَنهج.
إذا كُنّا نحلم بأيام أفضل للبنان، فعلينا أن نلتزم بذات الشيء لكل من يعيش هنا. كما أنّنا مُلزَمون بالتّرفُّع عن تطبيع المُمارسات اليوميّة الفاسدة ووضع حد لإستسهال خلق المآسي. يتحتّم علينا إسقاط نظام الكفالة، وتصميم أنظمة أفضل للهجرة وفرص العمل اللائقة لمن يبحثون عنها.
يجدر بنا أن ندعم بقوّة النّاجين والنّاجيات من نظام الكفالة الآن أكثر ممّا مضى، لا سيّما بعد الانفجار وفي ظل هذه الأزمة، وأن نُحارب ونحلم ونبني معًا، ليس كمُتفرّجين أو كمُنقذين، بل كبشر مُتساوين.