Main Content
"لم أكن أخطط للعودة إلى غانا قبل وقوع الانفجار، لكن الإنفجار غيَّر كل شيء." كرنتينا، بيروت. ٣١ آب ٢٠٢٠. (لين شيا، مصدر عام)

"لم أكن أخطط للعودة إلى غانا قبل وقوع الانفجار، لكن الإنفجار غيَّر كل شيء." كرنتينا، بيروت. ٣١ آب ٢٠٢٠. (لين شيا، مصدر عام)

النجاة في الكرنتينا: الطريق الطويل نحو الوطن

 ملاحظة من المحررة: بعد وقت قصير من انفجار مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠  بدأت الصحفية زهرة حنقير والمصورة لين شيّا بتوثيق تبعات الانفجار على عدد من الأشخاص الذين يعيشون في محيط المنطقة.  تحدثت زهرة مع ناجين في الكرنتينا، وهو حيّ معظم قاطنيه من الطبقة العاملة، ويعاني من إهمال منذ زمن طويل. استرجع الناجون ذاكرة الصدمة التي عاشوها والتي لا تزال تطاردهم، واصفين مشاعر اليأس والغضب وكفاحهم المستمر لإعادة بناء حياتهم. نُشرت هذه الشهادات ضمن سلسلة بعنوان "الحيَ المنسيّ: الناجون في الكرنتينا" وقد تم تحريرها فقط بهدف الإيجاز والوضوح. تكفّل مصدر عام بنشر واحدة من تلك القصص.

"دعوت الله وقلت، إذا متُّ اليوم، أرجوك أن تعتني بابنتي" دوريس اغبكي، عاملة منزل، تبلغ من العمر ٣٣ عاماً.

هنالك تفاصيل أريد أن أضيفها لقصتي، لكوني الآن في غانا.

أنا غانيّة، أعيش في لبنان منذ ١٠ كانون الأول ٢٠١٨. عملت عند مجيئي في منزل امرأة لم أستطع التأقلم معها. لم أكن سعيدة فقررت حينها مغادرة لبنان والعودة إلى غانا. لكنني عدت وقلت لنفسي أنني لا أستطيع الاستسلام. كان عليّ أن أعمل لأجني المال، ولن أسمح لأيّ من كان أن يثنيني عن المهمّة التي جئت إلى هنا [لبنان] لأجلها.

ولهذا السبب انتقلت إلى الكرنتينا. اتصلت بالوكالة التي كنت أتعامل معها وأخبرتُهم أنني أريد الانتقال إلى العمل لدى عائلة أخرى، فنقلوني إلى هنا. أنا سعيدةٌ مع هذه العائلة، أنا معهم منذ عام وأربعة أشهر.

عندما انتقلت للعمل في بيت هذه العائلة، عاملوني في بادئ الأمر على أنني واحدة منهم. لكن بعد ثلاثة أشهر، بدأتُ أواجه بعض التصرفات الغريبة من المرأة. أساءت معاملتي في بعض الأوقات. ذات مرة، ألقت الطعام الذي كنت على وشك تناوله في القمامة. كان قد مر عليّ يوم عمل شاقّ جدًا وكنت متعبة للغاية. لم يكن لدي حتى ساعات رسمية لبداية أيام العمل ونهايتها. في بعض الأحيان، كنت أجبر على العمل بالرغم من شعوري الشديد بالتعب، لأنني - وكما كانت تقول - كنت أتقاضى أجرًا فكان يجب عليّ العمل. كانوا يستغلونني بشدّة.

لكننا كنساء، تداهمنا مشاعر السعادة أحيانًا والحزن أحيانًا أخرى. فالناس يتّفقون ويختلفون عند منعطفات مختلفة، لا وجود لإنسان مثالي: لستُ بشخصٍ مثاليّ، والمادام (السيّدة التي أعمل عندها)  ليست مثاليّة كذلك، فهي تغضب في بعض الأوقات وأنا كذلك. ولكن بشكل عام أشعر أنني بخير هنا ولم أواجه أيّة مشاكل حتى اللحظة.

أخبرت الرجل أنني لا أريد العمل هناك بعد الآن، وبأن عليّ الرحيل. حتى عندما كنت أشعر بالإرهاق، كنت أقوم بما كانت تطلبه المرأة. حاولت أن أفعل كل شيء تريدني أن أفعله، لكنها لم تكن راضية قط. وكانت تصرخ في وجهي. لم تضربني قط، بالرغم من أنها حاولت مرة واحدة، لكنني لم أسمح لها بالقيام بذلك.

"... في غانا، أرض الوطن"

لدي عائلة في غانا، أرض الوطن. لكنني لست متزوجة، إنها قصة طويلة. كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما فقدت والدتي التي توفيّت بعد صراعها مع المرض. كان والدي ضائعًا من دونها. لم يستطع الاعتناء بي وبإخوتي بقدر ما كانت تفعل. كنت الابنة الوحيدة في الأسرة، وتركت والدتي وراءها ابنًا كان يبلغ حينها من العمر عامين، فاعتنيت به كما لو كان طفلي. حتى أنني أخذته معي إلى المدرسة. كان يبكي كثيرًا ، لكنني لم أمانع ذلك، لو لم أعتني به حينها ما كان لأحد آخر أن يفعل.

كنت شابة في مقتبل العمر، لكنني كنت مسؤولة عن تربية أخي وإكمال دراستي في الوقت ذاته. لم أنتمِ إلى طبقة ميسورة، ولكن بحمد الله كنت طالبة متفوّقة. كان أساتذتي مدركين لتميّزي، فقاموا بترفيعي من الصف الرابع إلى الصف السادس. لكنّ بعد حين، تعاظمت المسؤوليات واضطررت إلى ترك المقعد المدرسي وتكريس جلّ وقتي في تربية أخي.

عادة ما كنت أتوجه إلى البيت مباشرة بعد المدرسة، وفي غير أوقات درسي، كنت أقضي الوقت مع أخي. لكن عندما ضاقت عليّ الحياة بعد أن تركت المدرسة ، بدأت في الخروج مع أصدقائي ، على الرغم من أنني لا أعتبر نفسي شخصًا إجتماعيًا.

كنت فقط أتسكع مع أصدقائي، لم أكن أفعل أي شيء خارج إطار اللياقات. لكن في سن الثامنة عشرة أصبحتُ حُبلى عن طريق الخطأ. كان الرجل أول شريك لي على الإطلاق، وكانت تلك علاقتي العاطفية الأولى. كنت خائفة جدًا من إخبار عائلتي بما يحدث. أخبرت خالتي في البدء وبعدها والدي.

لقد عانيت الامرّين ، وكانت حياتي شاقّة ، لكنني أشكر الله أنني بخير.

بعد أربعة أشهر من ولادتي ، توفي شريكي - والد الطفلة - بشكل غير متوقع، لا نعرف ماذا أصابه. ذهب ذات يوم ليلعب كرة القدم وسقط على الأرض فنقلوه إلى المستشفى حيث توفي.

منذ ذلك الحين، وأنا أعتني بابنتي بريسيلا بمُفردي. كنت ألعب دور الأم والأب في آن. اضطررت للعمل في أماكن مختلفة لإعالتنا.

بعد وفاة والدتي تزوج والدي مرّة أخرى، اعتنت زوجته بي وبإخوتي كثيرًا. كانت امرأة قوية جدًا بصحة جيدة لم تعاني من أي مرض. لكنها استيقظت ذات صباح وطلبت مني إعداد الفطور، ففعلت وعندما أخذته إليها وجدتها ميتة في سريرها، ولم يعرف أحد ماذا أصابها.

حدث كل هذا في عام ٢٠٠٥، السنة التي أنجبت فيها ابنتي بريسيلا وفقدت زوجة أبي وشريكي. توفيت جدتي أيضًا في عام ٢٠٠٥.

قطعت وعدًا على نفسي في ذلك العام: قررت أن أترك الماضي ورائي وأركز على الحاضر. أنا امرأة قوية ، وأولويتي هي الاعتناء بنفسي وعائلتي.

"... لكن الإنفجار غيَّر كل شيء"

لم أكن أخطط للعودة إلى غانا قبل وقوع الانفجار، لكن الإنفجار غيَّر كل شيء.

استيقظت في أحد الأيام أشعر بألم شديد ونزيف في ضرسي. نظفنا المنزل سويًّا يومها، قمنا بإعادة ترتيب الأشياء وتغيير الديكور. في اليوم التالي، أحسست بالألم يشتدّ على ضرسي، لكن كان عليّ الاستيقاظ باكرًا لتحضير الفطور للأطفال قبل أن يذهبوا للمدرسة. استيقظت وحضّرت الفطور، لأنني أحب الأطفال كما لو كانوا أولادي، فكان عليّ الاستيقاظ -  وأنا أشعر بألم شديد - لأحضر لهم الفطور. بعد مغادرة الأطفال، لم يكن لدي شيء أقوم به، ذلك أنني استيقظت حوالي الساعة ٦:٣٠ صباحًا وغادر الأطفال قريب السابعة، فقررت أن أعود للنوم إلى الساعة التاسعة. قالت لي هذه المرأة: لماذا تعودين للنوم؟ قلت لها "أرجوكِ، أنا آسفة، لكن لا يوجد شيء أقوم به الآن، وأنا أشعر بالألم أيضًا." كانت المرأة وأمها ضدّي، وسألاني لماذا أريد العودة للنوم، وقالا أنني شديدة الكسل - - وأشياء أخرى من هذا القبيل. حاولت التحدث معهما. إضافة لذلك، فقد أنهينا ترتيب المنزل قبلها بيوم، فلم يكن لدي أي عمل أقوم به. جاءت أم كفيلتي ورمت حقائبي على الأرض وقالت "خذي أشياءكِ وغادري." قلت حسنًا، لأنني أيقنت أنني ربما لن أحس بالراحة أبدًا هناك، فوافقت على المغادرة، ووضبت كل شيء، لكن احتجت من الرجل أن يشتري لي تذكرة الطائرة.

كان يوم الثلاثاء ، ٤ آب. استيقظت في ذلك الصباح وأعددت الفطور وأكلت بمفردي. (استيقظت المادام (سيّدة المنزل) التي أعمل عندها وأولادها حوالي الساعة ١١). كان يومًا عاديًا. لم يكن شيء خارجًا عن المألوف. في وقت مبكر من فترة ما بعد الظهيرة ، قمت بإعداد غداء للعائلة. لم أجلس معهم، فأنا عادة ما أتناول الغداء بمفردي في وقت لاحق من اليوم، أي عند الساعة ٤:٣٠ مساءً. تناولت غدائي، ثم عدت إلى العمل. طلبت منّي المادام أن أنزل إلى الطابق السفلي لألاعب الأطفال بمجرد أن أنهي أعمالي المنزلية.

تقول دوريس إنها أحبّت شعرها الطويل ، لكن اضطُر الأطباء إلى حلاقته بداعي تقطيب الجرح. ٣١ آب .٢٠٢. (لين شيّا، مصدر عام)

تقول دوريس إنها أحبّت شعرها الطويل ، لكن اضطُر الأطباء إلى حلاقته بداعي تقطيب الجرح. ٣١ آب .٢٠٢. (لين شيّا، مصدر عام)

بعد أن انتهيت من تنظيف المنزل، توجهت إلى الشرفة وما إن وضعت الممسحة هناك سمعت ضوضاء غير مألوفة. شعرت أن شيئًا غريبًا كان يحدث، لكنني لم أكن أدري ما هو. بدأت السيّدة تطلب من الأطفال الدخول إلى المنزل. شعرت بالارتباك بسبب الأصوات، لكن لم يكن لديّ أي تفسير واضح، اعتقدت أن سيارة ما تُصدر أصواتًا أو شيء من هذا القبيل.

في غضون دقائق ، بدأ كل شيء يهتز، كنت قد انتقلت إلى غرفة الطعام عند تلك اللحظة. قبل أن أدرك ما يحدث كنت قد سقطت على الأرض وفقدت القدرة على الحركة. كان كل شيء يهتزّ، كانت الأرض تهتز، لكنني لم أستطع التحرك أو النطق أو الصراخ، لم أستطع القيام بأي شيء، كنت مشلولةً تمامًا، وبدأت أشعر بالدوار وأتساءل، ما الذي يحدث؟ ماذا يحدث؟ كنت أفقد صوابي، نسيت من أنا، كنت في حالة صدمة تامّة.

عندما عُدت إلى رُشدي، أدركت أنني كنت أنزف من رأسي ويداي، رأيت الدماء تغطي ملابسي، رأيت صدري ينزف، تساءلت عمّا يحدث، كان كل جزء من جسدي ينزف. تورمت عيناي وفقدت النظر في إحداهما.

كان الباب والزجاج قد تحطما على جسدي، كما ارتطمت بي أريكة بفعل قوة عصف الانفجار، ولهذا لم أستطع التحرّك من تحتها. اضطررت إلى إزالة الركام من حولي  ونازعت للخروج من تحت الأريكة، بينما كان كل جزء من جسدي ينزف. كنت في حيرة من أمري، لم أدري ماذا أفعل، لم أكن أعرف ماذا أقول أو أين أذهب.

بدأت أصرخ، "سيّدتي! سيّدتي! أين أنت؟" شققت طريقي إلى الطابق السفلي حيث كان جميع أفراد العائلة مصابون وفي حالة من البكاء والهلع، وصُدموا عندما رأوني.

لم أستطع الكلام في تلك اللحظة، كنت غارقة في الدماء والدموع. لم أكن حتى أرتدي حذاءً ، كنت أسير على الزجاج، كل شيء كان قد تحطّم، كل شيء كان قد دُمِّر.

كانت إصاباتي شديدة. راح الناس يصرخون ويبحثون عن سيارة تُقلّنا إلى المستشفى. كانت حالة من الفوضى العارمة، كان طفلا السيّدة أيضًا مصابين، لذا كان عليها التركيز على نقلهما إلى المستشفى.

عندما تركتني العائلة خلال الانفجار، كنت أقف في بركة من دمائي. لم يعتنوا بي، كان عليهم أن يأخذوني معهم إلى المستشفى، لكن في تلك اللحظة  لم يكترثوا البتّة لوجودي، على الرغم من أنها كانت مسألة حياة أو موت. لم يكترثوا إلا لأنفسهم ولابنتهم بطبيعة الحال، لا شكّ في أن ابنتهم كانت مصابة، لكنني كنت أموت، كنت أموت. ذهبوا بأنفسهم إلى المستشفى دون أن يأخذوني معهم. كنت ممدة هناك على جانب الطريق أنزف إلى أن مرّت سيارة إسعاف مصادفة وأقّلتني إلى المستشفى. وقبل أن أستوعب ما كان يجري، أعطاني المسعفون الأكسجين. لا أدري ماذا كان ليحدث لو لم تمر سيارة الإسعاف في تلك اللحظة.

كان كُل شخصٍ يُفكر بنفسه. كانوا يفكرون بأنفسهم  فقط، على الرغم أنني أنا من كنت مصابة بجروح بليغة. انظري إلى رأسي ووجهي وعينَيّ، كل جزء من جسدي كان مصابًا. كنت في بركة من الدماء، ولم يستطيعوا على مساعدتي أو نقلي إلى المستشفى. ويبقى السؤال العالق في ذهني هو : لو لم تمرّ سيارة الإسعاف في تلك اللحظة، ماذا كان ليحلّ بي؟ لكنتُ متّ. لكنتُ متّ.

تداركت في لحظة ما أنني كنت واقفة في بركة من دمائي، بالكاد أستطيع التحرك. لكنني سرت ببطء على جانب الطريق، واستلقيت على الأرض، ظننت أنني سأموت وأترك ابنتي وحيدةً في هذا العالم. لذلك دعوت الله وقلت، إذا متُّ اليوم، أرجوك أن تعتني بابنتي.

كنت أشعر بالظمأ فصرخت طالبة بعضًا من الماء. قصدتني والدة سيّدتي التي كانت أيضًا مصابة وتجهش بالبكاء، لطالما ناديتها "ماما". فقلت، "ماما ، ماما ، أحضري لي الماء"، قالت إنها ستفعل لكنها لم تستطع العودة لأنها كانت تساعد شخصًا آخر في الحي كان يحتضر.

بدأت أفكّر في أن النهاية اقتربت، كنت أقول لنفسي، "أنا أموت، لقد انتهى الأمر، هذه هي النهاية". بعدها لا أذكر سوى أنني كنت في سيارة إسعاف. بعد أن تلقيت العلاج في المستشفى، سألَتني الممرضات عمّن أحضرني إلى هناك. قلت إني لا أعرف، ولم يكن هاتفي الذي ضاع في الانفجار معي. لم أكن أذكر حتى من أنا، قلت: "لا أعرف من أحضرني ولا أعرف من أنا ولا أعرف وجهتي". لذلك لم يكن لديهم أي فكرة عن كيفية مساعدتي. طلبت منهم السماح لي بالبقاء.

كان هناك رجل في المستشفى، كان قد أحضر عمّه المصاب للعلاج. عرض الرجل الإعتناء بي حتى يجدني كفيلي. كان الرجل اللبناني المدعو أسامة، طيبًا جدًا. أخذني إلى منزل أخته حيث مكثت تلك الليلة. لقد اعتنوا بي. حين استيقظت صبيحة يوم الأربعاء، أدركت أنني ما زلت أنزف من رأسي. المادام (سيّدة المنزل) التي كانت تستضيفني اتّصلت بطبيب من منظمة غير حكومية، وأقلّوني إلى مستشفى آخر حيث عالج المسعفون الجروح في ساقي وقدمي كذلك.

عندما كنا نغادر ، تذكرت لافتة على مبنى في الحي الذي كنت أقطن فيه مكتوب عليها "وحدة سكنية". أخبرت أسامة وتمكن من العثور على الموقع على جوجل. لكن عندما وصلنا، لم يكن هناك أحد في المنطقة بسبب الدمار الهائل. لكن بعد فترة مرّ الكفيل المسؤول عنّي بالقرب من المنزل وتعانقنا. فقلت له: كنتُ أموت، أين كنتَ أنت؟ وبدأت بالبكاء. قال: "دوريس، الحمد لله أنك في المنزل، بحثنا عنك  في كل مكان، دون أن نجد لك أثرًا".

على الرغم من مغادرتها لبنان، إلا أن الندوب التي تسبب بها انفجار بيروت لن تفارق جسد دوريس. ٣١ آب ٢٠٢٠. (لين شيّا، مصدر عام)

على الرغم من مغادرتها لبنان، إلا أن الندوب التي تسبب بها انفجار بيروت لن تفارق جسد دوريس. ٣١ آب ٢٠٢٠. (لين شيّا، مصدر عام)

لم أستعد ذاكرتي بالكامل حتى اليوم الثالث بعد الانفجار. تفاقم إحساسي بعدم الارتياح كلّما تذكرتُ المزيد من تفاصيل الواقعة. الآن أشعر بعدم الإرتياح وأنا أجلس هنا معكم وسط ضوضاء أعمال البناء الجارية من حولنا، فكل هذه الضوضاء تشعرني أن الواقعة قد تتكرّر في أي لحظة. أحيانًا حين أتقلب في السرير ليلًا أستعيد ما حدث وأغرق في حالة من الأرق.

"...فلماذا أبقى هنا؟"

لهذا أريد العودة إلى موطني غانا، خسر كفيلي وظيفته خلال الأزمة الاقتصادية، دمّر الانفجار شركته العائلية ومنزله، فلماذا أبقى هنا؟ ما الهدف من بقائي؟ ما من شيء هنا. تعتقد عائلتي في غانا أني أعمل وأتقاضى أجري كُل شهر، في حين أن كفيلي لا يملك ما يكفي من مال ليدفع لي. والآن بعد أن دُمّر المنزل لم يبقَ هناك من عمل أقوم به. عندما قررت الرحيل، عَرَضت عليّ امرأة لبنانية طيبة أن تبتاع لي تذكرة الطيارة وحقيبة سفر وأشياء أُخرى كُنت بحاجة إليها.

قُبيل مغادرتي-  بعد الانفجار - كان هناك أشخاص كريمون يتبرعون بأغراض للعائلة التي كنت أعمل عندها. لكن صدقيني، لم يحاول أحد من أفراد العائلة أن يعرّفني ولو على شخص واحد قد يكون قادرًا على مساعدتي، على شخص قد يشفق عليّ أو يقدم لي المساعدة. لم يشاركوني أيًا من الأشياء التي تم التبرع لهم بها.

لم أُخبر بعد ابنتي بأني مُصابة. نتواصل في العادة عبر الفيديو. أول مرة تسنى لي التواصل معها بعد الانفجار كان مُنذ أربعة أيام، وكان اتصالًا صوتيًا وليس فيديو. إنها في الخامسة عشرة من عمرها. عندما تحدثنا، قالت بأنها مُشتاقة لي وسألتني عن موعد عودتي. والدي وإخوتي يعلمون بكُل ما حدث وبأنني عائدة إلى غانا. لكن ابنتي عاطفيةٌ جدًا، لو أخبرتها بما حدث لي ما كانت لتحتمل الأمر. رُبما عندما أعود إلى المنزل وتراني، فإنها ستستاء لما حدث لي، ولكنها ستشعر بالامتنان كوني مازلت على قيد الحياة.

قبل الانفجار كُنت مُرتاحةً في لبنان. فرضت جائحة كورونا بعض التحديات الحياتية، ولكن الوضع بقي مُحتملًا. دفعني الانفجار للتفكير الدائم بالناس الذين عانوا من خسارات فادحة. تشرد الكثيرون، والكثيرون وقعوا في دائرة العجز، والكثيرون في المُستشفيات، والكثيرون فقدوا أحبتهم. فكرّت بكُل هذه الأمور على نحو مُتكرر. أُصلّي لأن تعود بيروت إلى سابق عهدها بعد بضعة أشهر. أُصلّي لأن يرأف الله ببيروت، لتعود إلى ازدهارها مُجددًا، وليمضي الجميع بحياتهم على نحو طبيعي.

يعتريني إحساس بالحزن لفكرة أنني سأترك لبنان، فأنا أُحب الأطفال الذين كُنت أعتني بهم كثيراً، أتمنى لو أن بإمكاني البقاء معهم. عندما أتيت لأول مرة إلى منزلهم، وعدتهم بأن أبقى معهم خمس سنوات قبل العودة إلى غانا. لكني لم أبقى معهم سوى سنتين. لذا فإني حزينة جدًا لأني سأتركهم. أرادت الفتاة الصغيرة أن تأتي معي إلى غانا. قُلت لها: "لا تقلقي، سأعود خلال ثلاثة أو أربعة أشهر عندما تهدأ الأمور"، لأني لم أشأ رؤيتها تبكي. لديّ ذكريات رائعة مع الأطفال، أحيانًا عندما كُنت أشعر بالحزن هنا في لبنان، وعندما كُنت أشتاق إلى ابنتي، كُنت ألعب معهم فترتفع معنوياتي. كانوا يُذكرونني بابنتي، شعرت بالراحة معهم، إني أُحبهم، أُحبهم كثيراً.

أحياناً كُنت أشعر بأن الكبار يُسيؤون مُعاملتي، بيد أن عليهم أن يعلموا بأننا جميعًا بشر. عندما أرتكب الأخطاء، فإني أود لو يُقال لي بأن ما فعلته ليس صحيحًا، ولكني لا أُحب أن يصرخوا بوجهي، إني شخص يبحث عن التناغم. إن أسأت إليك بطريقة ما، فإني أرغب في أن تقول لي بأني جرحتك، عندئذٍ يُمكنني أن أعتذر، هذا أُفضل من أن تصرخ في وجهي. عندما كانت صاحبة المنزل تصرخ بي كُنت أفقد أعصابي. قُلت لها مرتين بأنها إن صرخت بي مُجددًا فإني سأترك المنزل. أتمنى لو أنها كانت تتحدث معي كما تتحدثين أنت معي الآن. أتمنى لو أنها تحدثت إليّ كامرأة واحترمت إنسانيتي. أُريد من الناس أن يتكلموا معي باحترام لأفهم أخطائي وأتعلم منها.

ما كُنت لأقول بأني عانيت العنصرية هنا. كُنت آكل مع العائلة، كنا نجلس معًا ونتحدّث ونأخذ الصور سويةً. لم يُعاملني أحد على أني مُختلفة عنهم. أُدرك بأن هذه الحالة لا تنطبق على الجميع. لدي أصدقاء رووا لي قصصهم عن تجارب مُروّعة عاشوها هنا، لكن قصتي مُختلفة. المُشكلة الوحيدة التي اختبرتها هنا في لبنان إلى جانب الانفجار، هي التوبيخ بالصراخ.

الحقيقة هي  أنهم لم يعاملوني معاملة حسنة، وبالأخص تلك الإمرأة. شعرت في وقت ما أنها عنصرية، صحيح، لكن في أحيان أخرى لم يراودني هذا الشعور. كبشر تراودنا أفكار إيجابية أحيانًا وسلبية أحيانًا أخرى. قبل العودة إلى الوطن في غانا ، كنت مستاءة للغاية، لم أكن سعيدة للغاية. عندما أتذكر كل ما حدث في بيروت، أسأل نفسي ماذا كان سيحدث لو لقيت حتفي في تلك اللحظة؟

"عودي إلى الوطن، وسنعتني بك"

غير أني عانيت ماليًا. كان يُدفع لي ٢٠٠ دولار في الشهر وحسب، لم يكن ذلك كافيًا. كُنت أُخبئ المال وأُرسله إلى غانا كُل ثلاثة أو أربعة أشهر. لكن لم يُدفع لي شيء خلال الأشهر الست الماضية، أي ما يعادل ١٢٠٠ دولار. لذا فإني لا أملك المال الآن. تحدثت إلى كفيلي (زوج المادام)، فقال بأنه سيُحاول أن يدفع لي ٣٠٠ دولار قبل رحيلي وبأنه سيُرسل الباقي بعد رحيلي عندما تهدأ الأوضاع. وأنا أثق به حيث أنه لا يُعاملني كخادمة، قال لي بأنه يعتبرني شقيقة له. أتفهّم بأنه يُعاني من صعوبات مالية لأنه خسر عمله ومنزله. إنه صديق لي، وبيننا علاقة طيّبة، ولا أُمانع في أن يُرسل لي المال لاحقًا. لو كان شخصًا آخر، لكُنت طلبت منه سداد مستحقاتي قبل رحيلي.

أنا الآن هنا في غانا بلا مال، أُعاني وعائلتي ظروفًا قاسية. يُفترض بي أن أعمل لأعتني بهم. لم يدفع لي كفيلاي راتبي المستحق قبل مغادرتي. فمن أصل ١٢٠٠ دولار يدينون لي بها، لم يعطوني سوى ٣٠٠ دولار. استخدمت الثلاثمئة دولار تلك لأخذ صورة لرأسي منذ ثلاثة أيام [وجدوا نثرات من الزجاج في رأسي]. سأضطر الى تحمل المزيد من التكاليف لتلقي ما احتاجه من العلاج. ساقاي متورمتان، لا أستطيع حتى السير بشكل طبيعي. كما أن على عائلتي الاعتناء بي. من أين سأحصل على هذا القدر من المال لإجراء الجراحة؟ لا أعرف ما إذا كان كفيلاي السابقان سيرسلان لي ما تبقى [من راتبي المُستحق]. ربما قالوا إنهم سيرسلون المبلغ ، لكن ثمةَ إحتمالية في ألا يفعلوا. لا أدري ما إذا كانوا قد غيروا رأيهم. أنا لا أعرف، لكنني لم أسمع منه [الكفيل السابق] منذ بضعة أيام. عندما أرسلت له "مرحبًا" [عبر رسالة نصية]، لم يرد على الرغم من أنني أستطيع أن أرى أنه رأى الرسالة. والمرأة كذلك لم ترد على رسالة أرسلتها لها. لذلك أعتقد أنهم لا يكترثون لي.

 "كُنت أعمل طاهيةً في غانا. أُحب ذاك العمل، أُحب أن أطهو. كُنت أعدُّ طعامًا شهيًا جدًا." كرنتينا، بيروت. ٣١ آب ٢٠٢٠. (لين شيا، مصدر عام)

 "كُنت أعمل طاهيةً في غانا. أُحب ذاك العمل، أُحب أن أطهو. كُنت أعدُّ طعامًا شهيًا جدًا." كرنتينا، بيروت. ٣١ آب ٢٠٢٠. (لين شيا، مصدر عام)

لا أعلم ما الذي سأفعله عندما أعود إلى غانا. عندما تستقر الأوضاع في لبنان فإني قد أعود إلى الأطفال، ولكني أيضًا قد لا أعود. لقد تعلّمت أمرين [مع العائلة التي عملت عندها]، ألا وهما كيف أعيش معهم، وكيف أتواءم معهم. يُمكن للناس أن يقولوا لك بأنهم يُحبونك، لكن أحياناً فإن هذا الحب يتحوّل إلى كراهية، لذا فإني لست متأكدة.

بخصوص ما إذا كنت سأعود إلى لبنان أم لا: قطعًا لا، لن أعود. لن أعود إلى لبنان أبدًا. لن أعود لأن تلك المرأة أساءت معاملتي. حتى لو ذهبت إلى منزل عائلة أخرى، ما من طريقة لمعرفة طبيعة معاملتهم لي، سواء أكانوا سيعاملونني معاملة سيئة أم سيعاملونني كفرد من العائلة. إنها مسألة لحظات، لحظة يشعرون فيها بالسعادة ونتبادل بها الضحكات وأخرى يتسببون لي فيها بالبؤس. أو ربما سيغضبون، أو يصرخون بوجهي، على كلٍ، عندما يسعد الناس بي أسعد أنا بهم، لكن إن لم يسعدوا بي، أصبح وحيدة.

قبل أن أُصبح مُساعدة، كُنت أعمل طاهيةً في غانا. أُحب ذاك العمل، أُحب أن أطهو. كُنت أعدُّ طعامًا شهيًا جدًا. كان حساء الخرشوف مع البامية طبقي الخاص. لو تسنت لي فرصة امتهان الطهي مجدّدًا لفعلت، لأن هذا أكثر ما أحببت فعله. حاولت أن أحب الطعام اللبناني لكنه ليس بجودة الطعام الغاني! [تضحك] حتى أني قد أفتح مطعماً خاصاً بي للطعام الغاني هنا في لبنان، من يدري!

بعد وصولي إلى غانا سأبقى في منطقة أكرا لفترة. عليّ الاعتناء بصحتي قبل أن أتوجه إلى بلدتي تيلفا، لأنضم إلى ابنتي ووالدي. مازلت أتألم، عليّ متابعة علاجي في مستشفى أفضل.

أحد إخوتي يعيش في أكرا، لذا سأقيم عنده. زوجته رائعة، قالت لي "عودي إلى الوطن، وسنعتني بك". لذا سأعود إلى الوطن. حتى أنها سألتني في أي وقت سأصل إلى المطار لتتمكن من إعداد وجبةٍ احتفالية لي، لا يسعني الانتظار.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.