Main Content
إمرأة ترتدي كمامة وهي تسير في السوق الشعبي في طرابلس قرب نهر أبو علي. طرابلس، لبنان. ١٣ حزيران ٢٠٢٠. (نظير حلواني، مصدر عام)

إمرأة ترتدي كمامة وهي تسير في السوق الشعبي في طرابلس قرب نهر أبو علي. طرابلس، لبنان. ١٣ حزيران ٢٠٢٠. (نظير حلواني، مصدر عام)

الحجر: أجساد جديدة في أماكن مألوفة

في اليوم ٢٤١ : السبت الواقع في ١٣ حزيران ٢٠٢٠

قفازات وأقنعة وكحول ومنظّفات وتباعد، أشياء لم تكن أصلاً جزءًا من يومياتنا أصبحت اليوم أساسيات لا يمكن الخروج من المنزل بدونها. أدخل فيروس كوفيد-19 على حياتنا اليومية أدوات وممارسات وعلاقات مختلفة. ومع الممارسات المتغيّرة التي نتجت عن وجود الفيروس، ظهرت تغييرات في علاقاتنا مع المكان و مع أجسامنا وأجسام من حولنا. 

 نشاطات كنّا نعتبرها بسيطة أصبحت اليوم شبه مستحيلة، حتى أماكن كانت جزءًا عادياً من حياتنا اختفت، صارت حتّى الحركات الجسدية العادية تخيفنا، أغلق الفيروس أمكنة ووضعنا في أخرى وكبّل حركات أجسامنا فأثقلها. من حركات بسيطة كوضع أيدينا على وجوهنا أو الرد على التلفون مع ارتداء القفازات، أو فكرة سحب علبة مطرّي الشفاه من الشنطة، ووضع اصبعنا على الجل ومسحه على شفاهنا، حركات هي اليوم مشاهد تحضيرية للكوابيس. فالفيروس حمّل الأشياء والأجسام ذنباً جديداً عبر إمكانية حملها ونقلها له، جاعلاً من ما هو خارج المنزل عدواً ممكناً، أكان انساناً أم جماداً. سنناقش خلال هذا النص، العلاقة المستجدّة مع الأشياء والأمكنة والأجسام التي تحوّلت فجأة إلى موت محتمل. 

السوبر ماركت

في الأماكن العامّة، اضطّرينا لبناء علاقة جديدة مع الأشياء التي أصبحت "عدوة"، من مقابض الأبواب، أزرار المصعد، وسيارات السرفيس أو الفان الذي أصبحنا نراها بشكل يشبه أفلام الخيال العلمي، فيروس كبير مدوّر متحرّك. هكذا، حملت الأشياء العادية والتي تشكّل جزءً من الأدوات والماكينات التي تسهّل حياتنا،  قيوداً جديدة وتهديداً غير متوقع.

وقد أثّرت إجراءات الدولة المتعلّقة بالنقل الخاص والعام على وضع العديد من الأفراد، خاصة أولئك الذين واللواتي لا يملكون سيارات خاصة، والذين يعيشون خارج المركز أو المدن. وقد أدّت هذه الإجراءات القاسية، من ناحية إيقاف النقل العام بشكل تام، وتحديد أرقام السيارات المسموح قيادتها، إلى منع الأكثر تهميشاً من الحركة. هذا الأمر أدّى إلى شبه منع تجوّل حتى في حالات الطوارئ، وفرض زيادة في كلفة النقل خاصة عند تنقّلهم من وإلى أماكن عملهم.

هكذا، وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع قرانا ومناطقنا، مع تلال لا نحتاج تعرفة لدخولها، ومحميات وغابات كنا سمعنا عنها، وأنهر وشواطئ نسيناها. فبموت المول خلال فترة الحجر، ظهرت الأماكن والمساحات بقيمتها وأهميتها الحقيقية عند الأفراد والجماعات. 

من جهة أخرى، أصبح السوبر ماركت، تلك المساحة التي كانت عادية في أيامنا، مكاناً أساسياً، لأنه الوحيد خارج المنزل الذي نستطيع  القيام بأي نشاط استهلاكي فيه، وإحدى المساحات القليلة الباقية –بالإضافة للشارع والمشاعات والأراضي العامة- التي نستطيع لقاء الناس فيها. كما أصبح السوبر ماركت هو المكان الذي قد تعتمد عليه حياتنا. فبساعاتِ زيارة قليلة، وفي معظم الأحيان كمية محدودة من المال، غدت السوبر ماركت ومحال الخضار واللحوم، في نظامنا الحالي، مصدر كل أساسيات الحياة .بالإضافة إلى ذلك، أصبح الوقوف مطوّلاً في أجنحة السوبر ماركت المختلفة لانتقاء الأغراض تحدّياً، وليس لغلاء الأسعار فقط، لافتراض أنّه يمكن أن يسمح بلحظات تقارب بين المتسوقين/ات، كما تحوّل كل غرض يتمّ شراؤه إلى غرضٍ غريب يجدر تطهيره. فتشابهت حياتنا على الأرض بين ليلة وضحاها، مع أفلام الخيال العلمي، احتمال يومي للتماس مع كائن فضائي. وبذلك، تحوّلت القفازات والأقنعة إلى معدات مشابهة لثياب نساء ورجال الفضاء في مهمّاتهن/م المعقّدة، فحوّل الفيروس الفضاء العام-السوبر ماركت ومحال الخضار وغيرها- إلى مكان مشابه للفضاء الخارجي، باحتمالات قضائه علينا. غدت الكرة الأرضية إذ ذاك  كوكبا آخر من كواكب النظام الشمسي المعادية للحياة البشرية.

خلال هذه المرحلة، حينما أغلقت الدولة المولات والمجمّعات التجارية، اكتشفنا حاجتنا للمساحات العامة، خاصة في بيروت والمدن. بالرغم من الثقافة الاستهلاكية التي وضعت زيارة المول في صلب ممارساتنا الاجتماعية والتي شجّعتها سياسات الدولة عبر فتح مناطقنا للمولات، لم يستطع المول أن يحلّ مكان الحديقة والكورنيش والغابة والمشاعات. هكذا، وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع قرانا ومناطقنا، مع تلال لا نحتاج تعرفة لدخولها، ومحميات وغابات كنا سمعنا عنها، وأنهر وشواطئ نسيناها. فبموت المول خلال فترة الحجر، ظهرت الأماكن والمساحات بقيمتها وأهميتها الحقيقية عند الأفراد والجماعات. 

الأجسام

من جهة أخرى، تعالج "البروكسيميكس"  (Proxemics) أي دراسة الاستخدام الإنساني للفضاء-المساحة التي نحتاجها بين أجسامنا وأجسام الآخرين. تكبر هذه المساحة وتصغر بحسب المحدّدات الثقافية وشكل علاقتنا بالأفراد، من أشخاص غرباء، أشخاص نعرفهم، أصدقاء، مقرّبون، أو أشخاص تربطنا بهم علاقة حميمة، كما نوع هذه الحميمية. أصبحنا بسبب الفيروس أكثر وعياً لما نلمس ولما يمكن أن يلمسنا، إذا وقفنا أو تحرّكنا. الأمر الذي تفعله النساء معظم الوقت في الأماكن العامّة - خوفاً على أجسامنا من احتكاك غير مريح أو تقارب يمكن استغلاله للتحرش الجنسي، أو من تواجد أجسامنا في مكان قد يزعج الآخرين، وهو ما نتعلّمه كنساء منذ الصغر، بينما يتواجد الرجال في المكان العام وجودا مفروضا كأنه إعلان سيطرة- لكنه يزداد اليوم، كما يضطر الرجال لفعله أيضاً. لقد تغيّرت علاقتنا مع أجسادنا، أصبحنا نفكّر طوال تواجدنا في مساحة عامة بكل ما يمكن أن يلمس جسمنا.  جعلنا المساحة المقبولة بيننا وبين الآخرين أكبر. 

أصبحنا بسبب الفيروس أكثر وعياً لما نلمس ولما يمكن أن يلمسنا، إذا وقفنا أو تحرّكنا. الأمر الذي تفعله النساء معظم الوقت في الأماكن العامّة - خوفاً على أجسامنا من احتكاك غير مريح أو تقارب يمكن استغلاله للتحرش الجنسي.
أيضاً، وبشكل آخر، شكّل الحجر ضغطاً على الأفراد المنخرطات/ين بعلاقات غير ثابتة، ممّا تسبّب بغياب الاتصال الجسدي ونقص في الحميمية والعلاقة الجنسية، أو أشكال منها. كما خلق الحجر، عامة، مسافات أكبر بين البشر، مؤثّراً بشكل مباشر على التقارب الجسدي بين الأفراد وأدّى إلى اختفاء الحميميّة غير الجنسية التي تخلق بينهم، من لمس وتقبيل واحتضان. 

البيت

عندما حبسَنا الفيروس داخل بيوتنا، خلق جداراً بين المنزل وخارجه، فأصبح كل ما يدخل المنزل من ناس وأغراض، تلقائياً عدواً ممكناً، حاملاً  للفيروس ويجب اعتباره مصدراً للخوف، وتطهيره. هكذا، جعل الحجر من المساحة الخاصة والمساحة العامة ضدّان لا يجوز لقائهما، بمقاربة تقترب بشكل أو بآخر من فكرة الحرملك والسلملك، الفصل بين اليومي المبتذل والحميم المحرّم (في البيت العثماني الحرملك هو الجزء الذي يؤمّن الخصوصية والذي يكون فيه أفراد المنزل على راحتهم، والسلملك هو الجزء الذي يجري فيه استقبال الزوار وخاصة الرجال منهم). أعاد الفيروس إذاً خلق الثنائية الصلبة بين الخاص والعام، ليس باعتبار العام آخراً فقط، بل باعتباره آخراً قادراً على التسبب بالموت. 

والمنزل، مكان الأمان والصحة، أصبح هو في الوقت ذاته مكان كل النشاطات. فجأة، ضاق المنزل ليحويَ الممارسات المنزلية اليومية العادية، بالإضافة إلى تلك المتعلّقة بالعمل والرياضة. وفي حالات محدودة، مكان اللقاءات الاجتماعية بدلاً من مكان العمل والمطعم والمقهى وقاعة الرياضة وغيرها. 

وبذلك، ضاق المنزل كثيراً، خاصة على الطبقة العاملة والمهمشات/ين، خاصة مع اضطرّار كل أفراد العائلة للبقاء داخله ممّا قلّص المساحات الخاصة لدى النساء، وحوّل معظم أوقاتهنّ إلى أوقات عمل منزلي خدمة للأفراد الذكور. خاصّة أن التنظيف المطلوب بسبب الفيروس تطلّب ممارسات أقسى وعمل أكثر، من تعقيم لكلّ ما يدخل المنزل، حتى التعقيم المستمرّ للأيدي والأسطح. هكذا، كان الحجر أشدّ وطأة على النساء اللواتي تعشن مع عائلاتهنّ، مع التشديد على التهديد الموجود في حالات كثيرة من الشريك أو فرد العائلة المعنِّف. المنزل هنا لا يلعب دور المأوى فقط، بل هو إمكانية الأمان في ظل الفيروس.

بالإضافة إلى المساحة الشخصية الصغيرة المسموح لهم التواجد فيها خلال الحجر، والاكتظاظ الكبير الذي تعاني منه الأحياء الشعبية، كان الحجر أكثر ثقلا على الطبقة العاملة والمهمّشين في ظلّ الخوف الدائم من الطرد والتهجير. إذ ازدادت أعداد المستأجرين المتخلّفين عن دفع إيجار منازلهم، ممّا دفع بأصحاب الشقق إلى طردهم. وتغيب الدولة اليوم عن دورها في منع الاخلاءات رامية بالكثير من الطبقة العاملة والمهمّشات/ين إلى الشارع. وتلاحظ ثلاثة أنماط ناتجة عن ذلك : تزايد أعداد المشردات/ين مع ما ينتج عنه من أضرار جسدية ونفسية للأفراد الذين يتعرضون للتشرد، العودة القسرية لعدد من الأفراد والعائلات المطرودة إلى قراهم وابتعادهم بذلك عن مركز الدراسة أو العمل، واضطرار الأفراد والعائلات تلك إلى القبول بمساكن أقلّ أماناً، والعيش في بيئة وأحياء جديدة بلا استقرار أو شبكة معارف، ممّا يزيد من اكتظاظ العشوائيات وربما أعدادها. 

بالإضافة إلى المساحة الشخصية الصغيرة المسموح لهم التواجد فيها خلال الحجر، والاكتظاظ الكبير الذي تعاني منه الأحياء الشعبية، كان الحجر أكثر ثقلا على الطبقة العاملة والمهمّشين في ظلّ الخوف الدائم من الطرد والتهجير.

كما سيضطر الأفراد اللواتي والذين يعيشون خارج بيت العائلة لأسباب شخصية أو سياسية أو اجتماعية، إلى العودة إلى منزل العائلة وتحمّل الضغوط النفسية وحتى الجسدية والعنيفة التي قد تنشأ عن ذلك. 

وبينما يبدو جلياً بأن وجود الفيروس بيننا سيكون لفترة غير قصيرة، لا بد وأن نطرح سؤالاً عن مدى تأثيره على تصرفاتنا وعلاقتنا بالمكان على المدى الطويل. 

فالسلام الجسدي مثلاً، والزيارات الاجتماعية والأعراس وحتى المآتم بالإضافة إلى كل المناسبات المتعلقة بالأطفال أصبحت اليوم، عادات شبه منقرضة. فما الذي سيتركه الفيروس من عاداتنا وما الذي سيجعله يختفي وما الذي سيغيّره؟ 

ففي الحذر الذي يرسمه الفيروس من الآخَر، شيئاً كان أم بشراً، رسم لحدود جديدة بين الأجسام وإعادة تعريف للأدوات والأمكنة ذات الاستخدام العام. لكنّه أيضاً لحظة مساءلة لماهية المكان الآمن وأهميته وضرورته لكل الاجسام والأفراد والجماعات، خاصة في أوقات الأزمات. يجب ألّا يكون المنزل ترفاً، ولا الفضاء الخاص الآمن، ولا المساحة التي نرتاح لوجودها بيننا وبين الآخرين. ولكن…  

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.