نظرة على تاريخ الحركة الطلابية في لبنان
سنة ١٨٨٢، ألقى عميد الجامعة السوريّةِ البروتستانتيّة، التي صارت تعرف لاحقاً بالجامعةِ الأميركيّةِ في بيروت، كلمةً أيّد فيها النظريّةَ الداروينيّةَ، مما أثارَ حفيظةَ الطلابِ المؤمنينَ من مدرستَيّ الطبِّ والفنونِ والعلومِ فتجمهروا احتجاجاً. تسبّب الأمرُ بأزمةٍ إداريةٍ أَفضَتْ إلى فصلِ العميدِ. تنبَّه الطلابُ عندئذٍ لفعاليّة تكتّلهم فاتّفقوا على الاجتماعِ دوريّاً لمناقشةِ مشاكلِهم ومطالبةِ الإدارةِ بمعالجتِها، إلّا أنّهم قُوبِلوا بالقمعِ والضغطِ والفصلِ التعسفيّ. تعدُّ هذه أوّل حادثةٍ مؤرّخةٍ للحراكِ الطلابيّ في تاريخِ لبنان الحديثِ، تبعَتها ثانيةٌ في الجامعةِ نفسِها بعد نحوِ قرنٍ في زمنٍ احتَكرَت فيه المؤسساتُ البرجوازيةُ والإرساليّاتُ الدينيّةُ الأجنبيّةُ التعليمَ العالي متيحةً إيّاه لطبقةٍ وسطى-عليا دون الطبقاتِ الشعبيّةِ المُفقَرةِ إلى وقت تأسيسِ الجامعةِ اللبنانيّةِ في الخمسينات.
خلالَ الحربِ العالميةِ الأولى، انتفضَ شبّانُ بلادِ الشامِ وبينُهم طلبة، رفضاً لقرارِ التجنيدِ العسكريّ الإجباريّ، فما كانَ من السلطنةِ إلا أن أعدمَت العشراتِ منهم في محاولةٍ لامتصاصِ حالةِ التمرّد. ومع بروزِ الهيمنةِ الفرنسيّةِ في المنطقةِ، اشتبكَت الحركةُ الطلابيّةُ بالقضايا السياسيّةِ-التحرريّةِ المناهضةِ للاستعمارِ، إذ يُروى أنّ أولى المظاهراتِ الجماهيريّةِ التي شَهِدَها لبنان قامَت سنة ١٩٢٥ احتجاجاً على زيارةِ وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور للقدس، وقد أشعلَ فَتيلَها الطلابُ، فجابَت المسيراتُ المندّدةُ كلّاً من بيروت ودمشق. طبعَت القضايا القوميّة التحرريّة ملامحَ الحركةِ الطلابيّةِ، ففي عام ١٩٣٧ اعتصم الطلاب رفضاً لضم قيليقيا والإسكندرون لتركيا، وسنة ١٩٤١ انطلقَت المسيراتُ الداعمةُ لاستقلالِ العراقِ عن الاستعمارِ البريطانيّ. كذلك خاض الطلاب معركةَ الاستقلالِ اللبنانيّ عن الاستعمارِ الفرنسيّ ولعبوا دوراً سياسيّاً طليعيّاً في الهبّة الشعبيّة، كما تبنّوا القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وكانوا عماداً للحراكاتِ الاحتجاجيّةِ، التي كان من أبرزها الإضرابُ الذي قادوه بوجهِ شركة ”الجرّ والتنوير“ التي كان يملكُها امتيازٌ فرنسيّ-بلجيكيّ أواخر الأربعينات، إذ استطاعوا في شهرٍ خَفْضَ عدد ركّاب الترامواي - وسيلةِ التنقلِ الشعبيّةِ - إلى صفرٍ رفضاً لرفعِ سعرِ التذكرة1 .
عمالَ ”الريجي“، وأعلَت صوتَ المستأجرين، كما دافعَت عن حقِّ الفلسطينيّين في الكفاحِ المسلّح. خاضَ طلبة الجامعاتِ والثانوياتِ معاركَهم المطلبيّةِ بالمؤتمراتِ والبرامجِ العلميّةِ والمطالبِ الموحّدةِ، وبالتظاهراتِ والاعتصاماتِ والإضراباتِ العامةِ المفتوحةِ، وبقطعِ الطرقاتِ واقتحامِ الوزاراتِ والإداراتِ في كلّ من بيروت وطرابلس وصيدا. جابهوا بطشَ الأجهزةِ الأمنيّةِ فمنهم من اعتُقِل وجُرِحَ واستَشهَد، ولم تكُن لتبنى أيّ من كلياتٍ الجامعةِ اللبنانيّةِ بغيرِ ذلك2 . خفَتَ وهج الحركة مع بداية الحرب الأهلية، واتّسمت السنوات الدراسية المتتالية آنذاك بالانقطاعات المتكررة، لا سيّما في الجامعة اللبنانية، وتحولت كلياتها إلى ساحة مواجهة بين أفرقاء الصراع أحياناً.
بعد توقيع اتفاق الطائف لإعلان وقف الحرب الأهلية، تزايدت التعبئة الشعبية خلال مطلع التسعينات مع تدهور الوضع الاقتصادي وانخفاض قيمة العملة. ففي مرحلة إعادة الإعمار وتنفيذ خطط الحريرية الاقتصادية النيوليبرالية، عرفت البلاد موجة احتجاجية اجتماعية مهمة، حيث تناولت تحركات العمال والموظفين/ات والطلبة مطالب حقوقية عديدة، كتحسين ظروف التعليم والعمل. في العام ١٩٩٥، حظرت حكومة الحريري الاحتجاجات وشنّت حملة على الحركة العمالية استمرت حتى عام ١٩٩٧، انتهت بتفكيكها واحتواء الاتحاد العمالي العام.
منذ الألفينات، تحرّك طلبة الجامعات الخاصة عدّة مرّات احتجاجاً على زيادة الأقساط، كما قاد الأساتذة المتعاقدون في التعليم الرسمي - على مدار سنوات متتالية - حراكاً بارزاً في العقد الماضي للمطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب. شهدت انتفاضة ١٧ تشرين عودةً عفويّةً لتلاميذ المدارسِ والثانوياتِ، ساهمت بتأجيج الحركة الشعبية في الأسابيع الأولى، كما تحرك طلبة الجامعاتِ وأساتذةِ التعليمِ الرسميّ والخاصِ في مسيراتٍ وإضراباتٍ داخل الصروحِ التعليميّةِ ووزارةِ التربيةِ والدوائرِ الرسميّةِ وساحات الاعتصام، احتجاجاً على الأوضاعِ المعيشيّةِ المتردية والواقعِ التعليميّ المأزومِ. تبعَها تبدّلٌ مهمٌّ في الأمزجةِ السياسيّةِ عكسَته الانتخاباتِ الطلابيّةَ في الجامعاتِ الخاصةِ التي شهدَت انتصاراتٍ للنوادي العلمانيّةِ والمستقلّةِ في وجهِ ممثلي أحزاب السلطة. قمعت الأجهزةُ الأمنيّة، ببطشها المعهود، التحرّكاتِ الاحتجاجيّةِ الرافضةِ لقرارِ الدولرةِ والإقصاء الطبقيّ والمطالبةِ بتدعيمِ وتطويرِ التعليمِ الرسميّ أواخر ٢٠٢٠، وتبدّت مشهديةُ العنفِ رديفةً مماثلة لتلك من عقودٍ خلَت. اليوم، فيما تتعمّق الأزمة وتتفاقم تبعاتها في ظلّ السياسات غير المبالية التي تنتهجها الدولة، يبقى مصير أكثر من ثمانين ألف طالب/ة في فروع الجامعة اللبنانية معلقاً، فيما المستقبل ”مُلغى“، إذ اتّسمت الأعوام الأخيرة بالإنقطاعات المتكررة في محاولات مستمرة من قبل أساتذة الجامعة لتحصيل حقوقهم المستلبة.
نعيدُ نشرَ صورٍ مُختارةٍ من أرشيفِ جريدةِ السفيرِ عن الحركةِ الطلابيّةِ لتظهيرِ هذا التماثل وتبيان سياقه التاريخي.