أن أركب الباص وحدي
في اليوم ٤٨: الثلاثاء الواقع في ٣ كانون الأول ٢٠١٩
ألامس الشعر الخشن النامي عند أسفل رقبتي. عندما قصصت شعري الأحد الماضي، استعمل الحلاق روبير ماكينة الحلاقة. ابتسمت وجفلت قليلاً وهو يمرر الآلة على رقبتي متسائلة، "هل هذا ما يشعر به الرجال؟"
بعدما تعرّضت للتحرش الجنسي في سن التاسعة، تمنّيت أن أكون صبياً. حتّى تلك اللحظة التي قام فيها ذاك الرجل، جار في سن جدّي، بملامسة ساقيَّ وصدري الذي لم يكن قد نما بعد، لم أكن أدرك أنّ جسدي كان جسد فتاة. ***منذ ذلك الحين وطوال سنين المراهقة الأولى، أردت أن أمشي كالصبيان، أردت جسد فتىً لا يجتذب، في مخيلة الفتاة التي كنتُها، صفير الرجال في الشارع أو وصفهم المسهب لما يودّون فعله بي أو محاولاتهم الحف والتحسيس عليه. أردت أن أهرب من جسدي، فارتديت القمصان الفضفاضة، خصوصاً قميص شيكاغو بولز (فريق كرة سلة أمريكي شعاره ثور غاضب) المفضّل لدي، لعلّني أتطبّع بخصال الثور. كنت ألعب كرة السلة، مخفيةً شعري تحت قبعتي دائماً. وفي يوم من الأيام، أتت أمّي لاصطحابي من المدرسة ولم تعرفني. كنت قد تسلّقت حائط المدرسة للعبور إلى بستان الزيتون حيث حطّت كرتنا، لوّحت لها ولم تعرفني بشعري المخفي تحت قبعتي، فلم تبادلني التحية أول الأمر. أذكر ذلك اليوم كما لو كان البارحة، وأذكر سعادتي لأنّ أمّي ظنّت أنّني صبي.
مساء أمس، لامست الشعر الخشن النامي عند أسفل رقبتي بعصبية وأنا أشاهد التلفزيون مع زوجي من غرفة جلوسنا في دبي. تابعنا حلقة جو معلوف على قناة أم تي في، التي حاور فيها ضيفه، مروان حبيب، المتهم بالإعتداء الجنسي. كنت قد قرأت الشهادات المنشورة على مواقع التواصل الإجتماعي عمّا فعله هذا الرجل. أزعجني أن يكون اسمه مروان، وهو اسم زوجي الذي آمن له منذ الصغر دون سواه من الرجال.
"معقول؟" سألت زوجي مروان.
"عم بيقول إنه منّو معتدي على أساس أنّه كان بفريق ال volley ball (الكرة الطائرة)؟ شو هيدا؟" قال قبل أن يهزّ برأسه ويضيف تعليقاً على عيني مروان الآخر الكاذبتين.
عينا زوجي مروان حنونتان، لا بل الأكثر حناناً. أحببنا بعضنا منذ سن الثانية عشرة وقد علّمتني صداقتنا ألّا أخشى غدر جسد الرجال طول الوقت. أمّا حبّه، فقد علّمني تدريجياً أن أعود لحب جسدي، بالرغم من الصراع الذي استلزمه ذلك.
نستمد الكثير من القوة من وجود تلك النساء في العلن وتوجيههنّ أصابع الإتهام إلى السلطة الأبوية.توالت الشهادات على أفعال مروان منذ أن قاد الفوج الرياضي في العرض المدني الذي نظمته الثورة بمناسبة الإستقلال. من إبنة الـ١٥ عاماً التي قالت أنّه تحرّش بها ولم يكف عن ملاحقتها أثناء الثورة، وصولاً للعديد من الشهادات عن ملاحقته النساء إلى الحمامات أو التحرّش بهنّ، أو تقبيلهنّ بالقوة أو مجالستهنّ من دون إذنهنّ في المطاعم والتفوّه بكلام غير لائق معهنّ. قرأت هذه الشهادات على مواقع إعلام إلكترونية كما على حسابات إنستغرام. قامت هذه الثورة على المجاهرة، وقد آن الأوان لتناول موضوع التحرّش وإلقاء اللوم على المعتدين بدلا من الضحايا، لا بل آن الأوان للإصرار على التحدّث بالموضوع.
عندما دعا جو معلوف النساء للإتصال بالـ "أم تي في" للإدلاء بشهاداتهنّ، إتصلت إمرأة واحدة فقط، وتحدّث باللغة الإنكليزية قائلة إن مروان اغتصبها. يحثّ معلوف الضحايا على الإتصال، في حين يصرّ مروان على كشف أسماء اللواتي كتبن عما فعله. أليس هذا الإصرار على معرفة أسماء الضحايا محاولة لفرض العار عليهن؟ مجرد الإشارة إلى اسم امرأة تعرّضت للإعتداء أو الإغتصاب هو استحضار للشتائم عليها وطرح لعلامات الإستفهام: ما الذي كنت تلبسينه؟ أين كنتِ؟ هل كنت مخمورة؟ لماذا قَبِلَت أن تعطي رقمها؟ أو أن تذهب معه إلى شقته؟ أُشاهد مروان يطالب بالأسماء ويمر ببالي فيديو الناشطات في تشيلي: معصوبات الأعين، بصوت وهتاف موحّد يهتفن "لست المذنبة أينما كنتُ ومهما لبست"؛ كيف رفعن الاتهام عنهنّ ووجهنَه إلى نظام كامل خذلهنّ: "أنتَ المغتصِب، الذنب ذنب الشرطة والقضاء والدولة." لم أستطع التوقف عن مشاهدة الفيديو.
نستمد الكثير من القوة من وجود تلك النساء في العلن وتوجيههنّ أصابع الإتهام إلى السلطة الأبوية. بعض الهتافات النسوية التي تردّدت كثيراً في الثورة اللبنانية كانت على لحن أغنية Elle descend de la montagne à cheval وتقول كلماتها "بدنا نسقط الأبوية بدا تفل." عندما زرت لبنان في عطلة نهاية الأسبوع الواقع في ٨ تشرين الثاني، شاركت في المسيرة العلمانية، حيث كرّرنا الهتاف النسوي نفسه ضد الأبوية والطائفية والهوموفوبيا والترانسفوبيا. لم يخطر لي يوماً أن أجاهر بهكذا هتافات في شوارع لبنان. لاحظت أيضاً أني كنت أشعر بالأمان، نسبياً، خلال المسيرات. وأقول هنا "نسبياً" لأنّني تعوّدت الحذر في المساحات العامة مهما كانت الظروف. تعوّدت أن أنغلق دوماً على الجسد الأنثوي هذا وأن أكون مخفيّة قدر الإمكان.
إلا أنّ هذه الثورة أظهرت النساء على الملأ، فالنساء يحملن هذه الثورة على أكتافهنّ، من المرأة التي ركلت البلطجي في اليوم الأول، إلى تلك التي أطعمت الثوار، مروراً بالّتي هربت من البلطجي الذي لاحقها بالعصا، والتي أضاءت شمعة، والتي قرعت على طنجرة، والتي قبّلت حبيبها في الشارع، والتي تمسّكت بشاب حاولت القوى الأمنية اعتقاله، والتي شاركت بالسلسلة البشرية، وتلك التي سارت على ما كان يعرف بخط التماس أيام الحرب حاملة الورد. وتلك النساء اللواتي ستسِرن يوم السبت للتنديد بالإعتداء الجنسي، فاضحات المعتدي ومستردّات أجسادهنّ، هاتفات بحق المرأة بامتلاك جسدها وبحق المرأة بالتعبير عن نفسها وحق المرأة بالنشوة وحق المرأة بالإجهاض. وتلك اللواتي ستنظّمن مظاهرة مستوحاة من نساء تشيلي بعد ٤ أيام. عودةً إلى هذا المساء وتلك المرأة التي توجّهت إلى مروان حبيب متهمة إياه بالإغتصاب.
لا بدّ لنا من التغلب على هذا الإحساس بالعار عند التعرض للإغتصاب أو الإعتداء الجنسي.لا بدّ لنا من التغلب على هذا الإحساس بالعار عند التعرض للإغتصاب أو الإعتداء الجنسي. أشاهد المحامي كريم مجبور يقول لمروان إنّه سيرفع دعوى ضده، مذكراً إياه بضرورة أن يفهم أنّ ملكية أجساد النساء تعود للنساء أنفسهنّ. أشاهد أيضًا فيديو الكاميرا الأمنية الذي يبيّن إقدام مروان على وضع مكعّبات ثلج في بنطلون إمرأة في أحد المطاعم وأستمع إلى جو معلوف يعلّق قائلاً إنّ هذه الأشياء تحدث في هذا النوع من الأماكن. يستدرك معلوف الموقف بعد قليل، مشيراً إلى أنّه لم يدرك ما كان يفعله مروان. بالرغم من التصحيح، فإنّ ردة الفعل الأولية ذكّرتني بكيفية تطبيع الرجال لهذا النوع من السلوك، بما في ذلك أولئك الذين يحاولون أن يكونوا حلفاءً للنساء. ما من تحرش "عادي"، فإنّ أي محاولة لفرض الفعل الجنسي على أجساد النساء، سواء ملامسة أو حديثاً، مرفوضة جملةً وتفصيلاً.
آمل أن تأتي الثورة بقوانين أفضل لحمايتنا ومساعدتنا في رفع الصوت. عندما تحرش بي ذلك الرجل، لم أفهم الفعل الذي أقدم عليه، ولكني أحسست بالعار ولم أخبر أمي شيئاً. لم أعرف كلمة أصف بها الفعل نفسه، لكنّني أدركت أنّه شيء سيء، فأبعدت يديه عنّي وركلته وهربت إلى المطبخ حيث زوجته، وبقيت هناك. لم أصارح أمي رأساً: من أين جاء هذا الشعور بالمسؤولية عمّا حصل؟ وبعد أسبوع تقريباً، بينما كانت أمي تمسك بالمفاتيح وتستعدّ لفتح باب الشقة، نظرت إليها وقلت، "بدي قلك شي، بس ما تزعلي مني." صمتت أمي ونظرت إليّ، وأظن أنها شعرت بذعري في تلك اللحظة. وحالما سمعت التفاصيل، بادرت بالقول "إنت ما عملتي شي غلط أبداً، بس ما فينا نخبّر البابا، لأنه إذا عرف يمكن يقوصو للزلمي ويفوت على الحبس." أومأت موافقةً على ضرورة الصمت.
الآن أطلب من زوجي ألا يقول لبناتنا أنه سيؤذي من يؤذيهنّ. علينا أن نعلّم بناتنا كيفية الدفاع عن أنفسهنّ ورفع الصوت والتحدث والتكلّم، لمحاسبة من يتعرّض لهنّ قانونياً. أتمنّى ألا يلحق بهنّ أيّ أذى، و أتمنّى أن أكون عند قناعتي لو حصل ذلك (لا سمح الله). يجب على الرجال الذين يحبوننا أن يساعدوننا على إسقاط أي نظام يزرع فينا العار ولا يأخذ كلامنا على محمل الجد، بدلاً من أن تكون ردود فعلهم نابعةً من ذكورية سامة تعزّز هذا النظام.
أريد من الآباء والأزواج والإخوة والأعمام والأقران والأصدقاء الكف عن إعلان عزمهم قتل من يؤذينا، فلن يفيد ذلك أحد، بل سيُرغمنا على إلتزام الصمت لحمايتهم. وبالتالي يُفرَض علينا الصمت مرتين: مرة على يد المتحرش ومرة على يد من يحبنا.
في حوالى سن السادسة عشرة، لم أعد أريد أن أكون صبياً ، لكنّي احتفظت بخوفي من الأماكن العامة.في حوالى سن السادسة عشرة، لم أعد أريد أن أكون صبياً ، لكنّي احتفظت بخوفي من الأماكن العامة. عندما لامس متحرّش فخذي وأنا أستقل الباص من طرابلس إلى بيروت للذهاب إلى الجامعة، بكيت أياماً ولم أستقل أي باص لوحدي من بعدها. في يوم السبت ذاك عندما شاركت في المسيرة العلمانية، عدنا متأخرات من المظاهرات، ولم أستطع المشي لوحدي في شارع الحمرا، فطلبت من الأصدقاء مرافقتي إلى بيت صديقتي. لا يزال الخوف يرافقني. عندما أقرأ شهادات عن التحرش على وسائل التواصل الإجتماعي، تعود آثار الصدمة مجدداً، ولا أرغب بأن يلمسني أحد بأي شكل، ولا حتّى زوجي. وهكذا أدرك أنّني ما زلت أربط بين الجنس (ولو كان مع شخصٍ أحبّه) وتلك اللحظة المؤلمة من حياتي.
أنا الآن أقوى، أكثر تعبيراً وأكثر ارتياحاً في جسدي، ولعلّ الأهم أنّني قادرة على الكتابة عن الموضوع، وقادرة على إخبار بناتي عمّا حصل لي، وإن كانت البالغة من العمر ٩ سنوات تخاف. أريدهنّ أن يعرفن معنى كلمة "تحرش جنسي." أمّا والدهنّ، فها هو يستمع إليّ وأنا أكلمهما ولا يقول لهما، "إذا حدا دقرك بقتلو!" ما زلت أحب الملابس الفضفاضة، مع أني أرتدي أيضاً الفساتين الضيّقة متى يحلو لي. يعجبني الشعر الخشن الذي ألمسه في أسفل رقبتي، لكني لا أرغب بأن أكون رجلاً. أريد أن أكون موجودةً في هذا الجسد الأنثوي، بهدوئي وصخبي. لقد تعلمت مع مرور الوقت كيف أغدو أكثر قوةً، وقد جاءت هذه الثورة كما لو أنها تقول لي (بل لنا جميعاً): "أراكِ. أنا معكِ." في زيارتي المقبلة إلى لبنان، أريد أن أستقل باصاً، ولوحدي.