أحياء بيروت المدمرة: بين جهود التعافي والأطماع العقارية
قامت ردود الفعل على انفجار بيروت بدق ناقوس خطر التهجير الدائم، وسرعان ما توجهت أصابع الاتهام صوب المشاريع العقارية الاستغلالية الكفيلة بتسريع عملية التهجير. وافق البرلمان في ٣٠ أيلول على إجراءات يدّعي أنها ستوقف انتزاع أراضي العقارات التي يملكها السكان المتضررون من الانفجار، لكن هذا الخطاب، الذي قد يبدو رحيمًا، يتغاضى بشكل واضح عن تاريخ موجات كبيرة من الطرد والإخلاء امتدت لعدة عقود من الزمن في مناطق مثل الجعيتاوي، ومار مخايل، والجميزة. عوضًا عن إحداث صدمة أو تغيير في الطبيعة السكنية و الاجتماعية للأحياء التي تشكل هذه المناطق، ندعو لأن يتم النظر للانفجار كاضطراب سيعزز سطوة الآليات المنتهجة مسبقًا، والتي ستُهجر عددًا كبيرًا من السكان و العاملين في الأحياء المحيطة بالمرفأ. ففي حال كان القائمون على تعافي بيروت جادين في سعيهم لإعادة الناس، عليهم أن يواجهوا القوى البنيوية والمؤسسية التي تسببت بنزعات التهجير التي سبقت الانفجار بفترة طويلة.
تندرج أولى موجات التهجير (١٩٩٦-٢٠٠٨) في هذه الأحياء المتضررة ضمن إطار النزعات السكنية التجددية، وهي عمليات تغيير حضرية / طبقية تتم من خلال تدفق كبير لسكان و شركات أكثر ثراءً هذه الأحياء.
نزعات التطوير الحضري لما قبل الانفجار
تندرج أولى موجات التهجير (١٩٩٦-٢٠٠٨) في هذه الأحياء المتضررة ضمن إطار النزعات السكنية التجددية، وهي عمليات تغيير حضرية / طبقية تتم من خلال تدفق كبير لسكان و شركات أكثر ثراءً هذه الأحياء. تسببت حفنة من المطورين العقاريين ممن وجدوا فرصًا عقارية في هذه الأحياء بأولى مظاهر هذه النزعات في بداية التسعينات، ومنهم شركات استثمار متأثرة بمشروع إعادة الإعمار في منطقة بيروت التاريخية الذي تديره الشركة العقارية الخاصة سوليدير على الطرف الغربي للأحياء المدمرة. كان البعض الآخر مالكو أراضٍ يعيدون تطوير أملاكهم الخاصة. بدءًا بالعام ٢٠٠٩، ساهمت طبقات ثقافية وترفيهية في ازدياد مضطرد في المشاريع التطويرية، إذ وَجدت هذه الطبقات في الجانب التاريخي للمباني والمدى القريب منها سيرًا على الأقدام المكان المثالي لحياة الليل والصناعات الإبداعية. اشتدت لاحقًا الصراعات حول الاستعمالات الصباحية والمسائية للمنطقة، وفيما استطاع سكان الجميزة الميسورون على ضبط الفعاليات الترفيهية الصاخبة، كان على سكان مار مخايل إما أن يتكيفوا مع الإزعاج أو أن يرحلوا. تسببت أرباح المحلات الطائلة والقوة الشرائية العالية للمستأجرين بعواقب سلبية على السكان، ووسعت فجوة الإيجارات وحفزت مالكي البيوت على إنهاء عقود الإيجار القديمة، مما ساهم في تسريع الإخلاءات.
برز محفِّز للإخلاء والتهجير أشد خطورًة، يتمثل بإخضاع سوق العقارات للأطماع المالية. تنسجم هذه العملية مع المرحلة الحالية من النيولبرالية العالمية، والتي يشار إليها في بعض الأحيان بالأموَلة.
برز محفِّز للإخلاء والتهجير أشد خطورًة، يتمثل بإخضاع سوق العقارات للأطماع المالية. تنسجم هذه العملية مع المرحلة الحالية من النيولبرالية العالمية، والتي يشار إليها في بعض الأحيان بالأموَلة. من خلال الاعتماد على عمليات بيع الأراضي لاستقطاب رأس المال الأجنبي، أعطى صناع القرار اللبنانيون الأفضلية لدور الأرض كاستثمار مالي، طغى على أدوارها الأخرى كمأوى أو مكان عمل. يكشف بحثنا أن عشرة قوانين على الأقل صدرت بين عامي ١٩٩٩ و٢٠١١ لتحفيز تدفق رأس المال في البيئة العمرانية (الشكل ١). لذلك، تم تعديل قوانين الملكية لتسهيل شرائها من قبل الأجانب، وتم تخفيض رسوم تسجيل العقارات. وبشكل موازٍ، تم تعديل قوانين البناء لتكثيف الإعمار وزيادة أرباح المطورين العقاريين (الشكل ١). إضافة لذلك، أصدر البنك المركزي تعميمات تخفف قيود احتياطي البنك لتسهيل تقديم القروض العقارية، ورفع القيود التي منعت البنوك سابقًا من الاستثمار بشكل مباشر في العقارات (الشكل ١). عندما استفحلت الأزمة المالية عام ٢٠١٩، كان البرلمان لا يزال يصادق على عقود ويمدد تقديم قروض الإسكان، مستهدفًا العاملين في القطاع العام مثل القضاة و ضباط قوى الأمن . على الرغم من المؤشرات المقلقة للأزمة المالية واستنزاف احتياطي البنوك، وبالنتيجة مدخرات المودعين، استمر البنك المركزي بالمصادقة على أنظمة لزيادة عدد المؤسسات الرسمية التي تدعم قروض الإسكان (الشكل ١). لا تخفى عواقب استراتيجيات الأموَلة هذه: تم استبدال البنايات القديمة ببنايات أعلى وأكثر كثافة غالبًا ما تكون فارغة، فيما أصبحت الشقق الفارغة أشبه بخزنات مدخرات عوضًا عن بيوت للسكن. تفشى هذا التوجه بعد الانهيار في تشرين الأول ٢٠١٩، إذ بدأ كبار المودعين بالبحث عن أصول آمنة يضعون فيها رؤوس أموالهم.
الشكل ١: الإعمار المكثف بفعل الحوافز المالية وقروض الإسكان وقوانين البناء
إطار غير متكافئ لسياسات الإسكان
في هذه الأثناء، علينا ألا ننسى عدم وجود إطار يصيغ سياسات إسكانية تناصر حق السكن في لبنان، إذ تم حل وزارة الإسكان عام ١٩٩٦ واستبدالها بالمؤسسة العامة للإسكان. حدّت الأخيرة من تدخلها في قطاع الإسكان ليقتصر على توزيع القروض كأحد أشكال الإسكان الميسّر في لبنان. لم تضر هذه السياسات بالإسكان الميسّر فحسب، بل عجزت أيضًا عن تعويض غياب قوانين الإيجار، ومحفّزات المشاريع العقارية الميسّرة، أو أي سياسات إسكان أخرى لازمة لرسم إطار أساسي لسياسات الإسكان. إضافة لذلك، تم تحرير الإيجارات بشكل كامل منذ عام ١٩٩٢، مما أبقى على شريحة صغيرة من المجتمع محمية ضمن قوانين الإيجارات القديمة. صارت هذه الحماية تنازلًا أمام استنفار المستأجرين القدامى، عوضًا عن تقييم للهشاشة أو اعتراف بالسكن كحق، فظل هذا تنازلًا قيد التفاوض، ولم يفضِ لأمن سكني مستدام.
علينا ألا ننسى عدم وجود إطار يصيغ سياسات إسكانية تناصر حق السكن في لبنان، إذ تم حل وزارة الإسكان عام ١٩٩٦ واستبدالها بالمؤسسة العامة للإسكان.
وما زاد الطين بلة هو أن قانون الإيجارات الجديد وغير المحكم الذي صدر عام ٢٠١٤ جاء لتحرير قيود الإيجار بنصوص لم تطبق قط3 ، فتسبب هذا القانون بتحويل الحق في السكن إلى صراع خاص بين المالكين والمستأجرين الذين لا خيار لديهم سوى اللجوء للقضاء. وفي هذه الأثناء، وضع الإيجار المحرر الكثير من المستأجرين تحت شروط صعبة، إذ يميل المالكون إلى المطالبة بإيجارات باهظة متى ما شاؤوا بسبب ارتفاع سعر الارض بشكل متسارع. ومع انهيار الليرة اللبنانية بعد ٢٥ عامًا من تثبيت سعر صرفها إلى الدولار، دفع الاتفاق على سعر الصرف الفعلي للإيجارات - والتي تثبت عادة بالدولار - بالكثير من المستأجرين إلى الرحيل، فيما علق كثر في مفاوضات لا تنتهي حول سعر الصرف المستخدم والإطار القانوني الموثوق لتحديده.
آلة التطوير العقاري ومناطق بيروت المدمرة
تأثرت أحياء مونو، ومار مخايل، والجميزة، والجعيتاوي والكرنتينا - شديدة التضرر من الانفجار - بشكل كبير بهذه النزعات. أظهرت إحصائية مختبر المدن بيروت لعام ٢٠١٨ أن أربعة مصارف و١٣ شركة استثمار متورطة بشكل كبير في أنشطة الإعمار في هذه المناطق. تظهر وثائق السجل التجاري أن المساهمين في هذه الشركات يعملون من خلال آليات خاصة، وشركات خارجية (اوفشور)، وشركات قابضة مثل سوليدير و بيال، فلدى معظم هؤلاء المستثمرين إما صلات قوية بالطبقة السياسية أو المصرفية، أو هم أنفسهم سياسيون أو مصرفيون. إضافة لذلك، تبين أن المغتربين اللبنانيين والأثرياء الأجانب - المقيمين في الخليج العربي بشكل أساسي - من أكثر المستثمرين نفوذًا.
وبموازاة أنشطة البناء المكثفة، توصلت الإحصائية لمعدل شغور عال جدًا في هذه الأحياء، يتوزع بين ٢٠ إلى ٥٠ بالمئة من هذه العقارات الجديدة. كانت الشقق الجديدة الفارغة بالمئات فيما كان المطورون العقاريون يطردون السكان (الشكل ٢). زادت حدة هذه الإخلاءات من خلال أنشطة إعمار جديدة منذ عام ٢٠١٤، عندما تكشفت الأزمة العقارية، فلجأ المطورون العقاريون إما لترك الكثير من البنايات فارغة، أو تحويل البنايات التي تم إخلاؤها لمرائب سيارات، دون أن يحققوا غاياتهم العقارية (الشكل ٢).4 خلال إنجاز الإحصائية، تم رصد ١٠ بنايات قائمة رفض سكانها الإخلاء حتى بعدما اشتراها المطورون العقاريون (شكل ٢).
الشكل ٢: التهجير القسري ما قبل الانفجار في الأحياء المتضررة من الانفجار
-
موقع الإنفجار
-
منطقة التقييم
-
رخص الهدم (٢٠٠٥-٢٠١٧)
-
عقارات لا بناء عليها*
-
مواقف السيارات*
-
مساحات خضراء*
-
إخلاء/تهديد بالإخلاء*
* الأرقام من مسح مختبر المدن بيروت في ٢٠٠٨
(المصدر قاعدة بيانات بيروت المبنية ٢٠٢٠)
استقطبت أنشطة البناء الحديثة سكانًا جددًا. استفاد حوالي ٢٠٠ بيت ضمن المناطق المذكورة من قروض مقدمة من المؤسسة العامة للإسكان، وكثير منهم مهدد بالطرد فيما هم يعانون في تسديد القروض. وبينما تتزايد معدلات الفقر والبطالة (التي وصلت حسب البنك الدولي لنسبة ٥٠ بالمئة)، نتوقع أن تزداد هشاشة الأسر التي تعتمد على التملك السكني كنوع من الأمان، على الرغم من الجهود المستمرة للمؤسسة العامة للإسكان في إيقاف الإخلاء مؤقتًا. تشير المقابلات التي أجريناها مع المهنيين الشباب الذين عملوا وعاشوا في هذه المناطق، إلى أنهم هم أيضًا تحملوا تبعات المفاوضات الصعبة حول الإيجار. قال كثيرون أنهم كانوا مستعدين لترك مساكنهم بعد تراكم التجارب السلبية مع المالكين، فيما وصل آخرون لحل وسط بإصلاح البيوت عوضًا عن الإيجار.
من أجل تغيير هذه التيارات، علينا أن نقارب التعافي الحضري من خلال تحدي القوى التاريخية التي أدت إلى الإخلاء في هذه المناطق وغيرها في المدينة.
التعافي ما بعد الكارثة: إطار متكامل
في الختام، لا بد من العودة لمسألة التعافي التي تتبع أي كارثة، فعلى الرغم من التدمير الشامل الذي ضرب الشقق والمباني وسبل العيش، لا يمكن إنكار حقيقة أن الدمار طويل الأمد الذي إدى إلى تهجير الناس والخسارة المالية يفوق الانفجار. من أجل تغيير هذه التيارات، علينا أن نقارب التعافي الحضري من خلال تحدي القوى التاريخية التي أدت إلى الإخلاء في هذه المناطق وغيرها في المدينة. إذا عجز التعافي الحضري عن مواجهة المسببات الجذرية، سيعني ذلك اضطرار المزيد من الناس إلى الإخلاء، وسيستمر انهيار التراث، وستظل الشقق خالية، وستتناقص الحيوية الاقتصادية لهذه المناطق. تبدأ منهجية التعافي الحضري الشاملة والمرتكزة على الناس من خلال المطالبة بالحق في السكن والحق في المدينة. من حقنا أن نحلم و أن نطبّق بدائل حضرية، وأن نصنع مستقبلًا لا يمليه الجشع، ولا تديره الأنظمة السياسية الفاسدة. لا زال الحلم بعيدًا، والطرق لوصوله معقدة، إلا أن الناشطين والملتزمين بإعادة بناء بيروت على أسس جديدة بحاجة لأن يدعموا خطاباتهم وتطلعاتهم باستيعاب العملية التي مكنت المستثمرين العقاريين من الاستيلاء على المدينة على امتداد عقود من الحكم الفاسد. الأهم من ذلك هو أن التعافي بحاجة لنماذج جديدة في إدارة السكن، نماذج تعمل في مصلحة الناس لا الأطماع الخاصة للطبقة السياسية الحاكمة التي أخضعت المدينة وقطاع السكن خلال آخر ٣ عقود لرؤية حضرية ضيقة قائمة على الربح.
مصدر الرسم البياني والخريطة: فريق مختبر المدن بيروت لرسم الخرائط ٢٠٢٠