Main Content

زيارة طويلة إلى منزلي

في ٢٧ تشرين الثاني، ظننتُ أن كابوسًا سينتهي مع وقف إطلاق النار عند حلول الساعة الرابعة فجرًا. في تلك الليلة، لم أميّز بين غارات الحمرا والغربية والضاحية. صادفتُ بيتي في ذلك المربع الأحمر المشؤوم، لعنت كل مرّة مررت عليه بسرعة خوفًا من غارة أقصى ما يمكنها فعله أن تقتلني في بيتي! ولكن كيف ستكون العودة؟ كيف أضمّ الأرض كلها في قلبي؟

عند الساعة السادسة صباحًا، توجهت صوب الحي الذي أقطنه في الضاحية. تشابكت نظرات من يبحث عن بيته تائهًا مع من يلملم بعض الذكريات ومن بدأ بمرحلة ”التعزيل“... وجدت بيتي، لكن بيوت جيراني قد اختفت. أما المدرسة المجاورة التي شتمتها في كل صباح، تضرّرت صفوفها معلنة انتهاء عام دراسي لم يبدأ قط. ماذا يستبدل أصوات الأطفال غدًا؟ وهل نعتاد صوت ردم البيوت؟

عندما كنت أدلّ موظّف التوصيل في سناك ”عروسة لبنة“ أو مطعم ”الجواد“ على بيتي، كنت أقول له: ”هني بنايتين حد بعض، مش يلي عليها صورة الشهيد…“ اليوم، عُلّقت صور السعداء على كل الأبواب والبيوت. بتنا نعرّف عن أنفسنا بأسماء الذين غادرونا، نريد من كل العالم أن يمعن النظر في وجوه أغلى شبابنا. أنتظر إعادة افتتاح المطاعم من جديد، لا بد أن أجد طريقة أخرى لأدلّ بها الموظّف على بيتي، لئلا يتوه إلى الأبد بحثًا عن البناية ”يلي ما عليها صورة شهيد.“

أجول في الضاحية وأستذكر كلمات كريستين، فتاة صغيرة من حي السلم قابلتها في مدرسة تحوّلت إلى مركز للنزوح، تحدّثني عن حيّها: ”بطَّل في ولا بيت عايش“. يا تُرى هل عاش بيتها أم مات بمفرده؟ أفكر بيتي، لا أريد أن تقتله رائحة البراد، أضعه خارجًا مع سائر برادات العمارة، وأبدأ التعزيل ولملمة الزجاج والاطمئنان على من تبقى من جيراني. بعدما طار الشباك من مكانه، صارت جارتي في البناية ”يلي عليها صورة شهيد“ وكأنّها في منزلي. 

جارتي، مطبخي، مكتبتي… بات لضمير المتكلم وقعٌ مختلف. مع بعضنا، كلّنا نتكلّم بصيغة الجمع، فنقول: ”الحمد لله ع سلامتنا“، ”المهم شبابنا مناح“، ”ضيعتنا فيها ٨٠ شهيد“… فجأةً، يصبح الحيُّ منزلًا كبيرًا يجمعنا كلنا. أشرب أول فنجان قهوة في منزلي ”من دون حرب“ ثم أقصد دوار الكفاءات. لعلّ أكثر ما كنت أحتاج إليه خلال الشهرين الماضيين، كان رؤية مشاعري تتجسد في من حولي، وأن أشعر بأنّني جزء من جماعة. كان تجمعنا العفوي في أماكن مختلفة في الضاحية ما هو بالنسبة لي إلا تعبير عن الاشتياق! لاحقني هوسي بالصورة حتى في هذا اليوم، التقطتُ بعضًا منها، لكنّي رفضتُ أن أبقى خارجها، فالتحقتُ بالناس.

لفتني شاب يافع يقف في منتصف الطريق ويوزّع صور السيد على المارّين. ارتعبتُ بمجرّد التفكير باليوم المرتقب، بسرعة طردتُ من رأسي تلك الفكرة ورحت أتابع حركات الشاب، وإذ برجل خمسيني يخرج من سيارته، يأخذ صورةً ويقبّلها ويقبّلها ثم ينهار باكيًا في منتصف الطريق كطفل صغير. كان مشهد ذاك الرجل مقبًلا صورة السيّد من أجمل المشاهد التي لم تلتقطها عدستي. خفتُ أن تجتاحني تخيّلات ذاك اليوم من جديد، فعدتُ أدراجي إلى منزلي لأول مرة منذ دهرين.

في الساعات الأولى لوقف إطلاق النار، رجل يقود باصًا أبيض اللون، يرفع شارة النصر وعلم حزب الله من الشباك، ويظهر خلفه دمار المباني في الضاحية الجنوبية. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية، لبنان. (فاطمة جمعة، مصدر عام)
عقب وقف إطلاق النار، رجل ينظّف مدخل العمارة وصورة السيد الشهيد معلّقة على الحائط. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية، لبنان. (فاطمة جمعة، مصدر عام)عقب وقف إطلاق النار، رجل ينظّف مدخل العمارة وصورة السيد الشهيد معلّقة على الحائط. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية، لبنان. (فاطمة جمعة، مصدر عام)
كنبة تمكّن أصحابها من تخليصها من بين ركام البيوت في الضاحية الجنوبية لبيروت. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية، لبنان. (مصدر عام، فاطمة جمعة)
رجل يعود مع أطفاله الثلاث إلى حيّهم المدمّر في الضاحية الجنوبية خلال ساعات من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية، لبنان. (مصدر عام، فاطمة جمعة)
صورة من شقّة المصوّرة في الضاحية الجنوبية، اختفت العمارة المقابلة جرّاء الاستهداف الصهيوني الوحشي، وتضررت صفوف المدرسة المجاورة. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية، لبنان. (فاطمة جمعة، مصدر عام)
امرأة ترفع شارة النصر من شباك باص للعائدين إلى الضاحية الجنوبية. ٢٧ تشرين الثاني، ٢٠٢٤. الضاحية الجنوبية. (مصدر عام، فاطمة جمعة)

فاطمة صلاح جمعة

فاطمة صلاح جمعة هي مصورة وصانعة أفلام لبنانية.