لماذا أصوّر تشييعًا؟
الصورة الأبدية
أكتب عن هذا اليوم قبل مجيئه بأشهر. أكتب عنه كوني لا أجرؤ على أن أكتب "إليه". استشهاد السيد موضوعٌ أحرص على تجنّبه. أحدّث بعض الرفاق فأقول أنّ شعبنا بحاجة لصفعة كهذه، وأنّنا لم نستحقه فعلًا ولم نحسن الإصغاء، فقد أبهرتنا بصورته. لعلّ أكثر ما يخيفني أنّني لا أريد له أن يكون صورة فقط، وعلى الرغم من ذلك، أراه الصورة الأخيرة… التشييع الأخير.
أعود للكلام عن الصورة.
أكتب وأفكر بعملي، بالصورة التي بحثت عنها طيلة سنة ونيّف.
خلال هذه المدّة، سُئلتُ كثيرًا عن دوافعي للحاق بكل تلك التشييعات، لماذا أصور تشييعًا؟
والآن، أجدني مع كل هذه الصور، كأننا تبادلنا الأدوار. صارت كلّ النساء تنظرن إليّ كما كنت أنظر إليهن.
لماذا أصور تشييعًا؟ لماذا أريد للحظات الموت والدفن أن تبقى إلى الأبد؟
كنت بحاجة لأن أفعل شيئًا ما! وإن لم أفقد حبيبًا غير السيد في هذه الحرب، أردت القيام بواجبي تجاه هذه العائلة الكبيرة، أن أمنحها كما تمنحني. أعلم أن لتلك الصورة أسباب غير الأنا.

الحلم
أعود اليوم إلى اللّحظة الأولى. روضة الشهيدَين، زاوية أمام قبر شهيد، طفل صغير اسمه محمد. حينها جلست بقربه وبكيت، ربّما لأنّها المرة الأولى التي أخسر فيها فردًا من عائلتي، من أحبائي المقربين. أذكر ذلك اليوم جيدًا: وجوه حائرة، رجال كثر، كل واحد ينتظر أن يصرخ أحدنا ويكذّب الخبر، من يوقظنا؟ من يشرح لنا ما الذي حدث؟ صرنا نسمي هذا اليوم بأسماء كثيرة، الامتحان، القدر، اللعنة، الأمر الإلهي… مسميات نحتاجها كي لا نورد اسم السيّد والشهادة في جملة واحدة.
أراقب من جديد هؤلاء الرجال. في تلك اللحظة، كان شهداء الروضة هم الأحياء بيننا، ينبضون بالحياة أكثر من زوارها.
في تلك اللحظة، عاش الشهداء كلهم، ومُتنا جميعًا.
حينها أذن الله للسيد أن ينتصر، مرّة وإلى الأبد.
أعود إلى محمد، يعلو صوت البكاء شيئًا فشيئًا. يتوافد الزوار، أنظر حولي، لا أعرف من أرى، ما أرى، أحاول أن أركّز في وجه محمد، هو الآخر ينظر نحوي! أقرّر الخروج، لكنّي أتجمد في مكاني عند سماعي ذلك الصوت، صوت امرأة، دخلت تكلّم أحدهم. تصل إلى منتصف الجبانة، تتوقف أمام قبر، تخاطب صورة الوجه المعلقة، "شو عم تعمل فوق؟" ، ثم تنظر الى وجوه الأحياء وتصرخ "إنتو كلكن شو عم تعملو فوق؟ مش المفروض تكونوا عم تحمّوه؟" ثم تحدّث ابنها من جديد: "دفنتك كرمال ما إحضر دفن الغالي… لما دفنتك هون قلت فداك يا سيد… هلأ شو بقول؟"
حلمٌ لم نستفق منه بعد.
أقترب من المرأة، ابنتها تبكي بالقرب منها، ترتجف بصمت. أنظر إلى عينيها، أرى ما كانت تهذي به، إنها تراهم، "اليوم يجتمع الحبيب مع أحبّته كلّهم!"
محمد مرة أخرى، وأدرك في تلك اللحظة أنني فعلًا أعرفه!
لقد صورت تشييع هذا الطفل عقب استشهاده متأثرًا بجراحه في مجزرة أجهزة البيجر.


وجه أمي
أدوّن خواطري قبل رؤية ما التقطته ولم ألتقطه من "لحظات أبدية".
لم تحضّرني التشييعات المئة لهذه اللحظة…
كان لا بد أن ألتقي بكل الشخصيات في هذه الحكايا. نساء حفظت وجوهههنّ وغفلت عن أسمائهنّ. في الملعب، في مكان التشييع، أراها مجدّدًا، السيدة من مركبا، كنت قد صورتها في تشييع أولاد أختها، يومها عمد العدو إلى ترهيب المشيّعيين وقصف في محيط القرية. ثم عدت ورأيتها مرة أخرى في تشييع السيد محسن. كما هي، كانت تعلّق صور أعزّائها على صدرها. كم كانت جميلة!
أدخل الملعب، أسعى نحو صورته…
أفكر بجدران بيوتنا الحائرة، أتخيلها تقول: ما بهم قد أخذوا الصورة الأغلى منّا؟
أفكر ببيوتنا، تسأل ما الذي حدث؟ أين صورته المعلقة في قلوبنا؟ وأين هو؟
سؤال غريب، لم يسبق أن طرحته على نفسي قط.
كنا نشعر به حولنا، لكن أن نعلم اليوم مكان تواجده لهو حقًا شعور موحش! تحمل النساء الصور المعلقة في البيوت، أسمع أحاديثهنّ فيما يخاطبن أولادهنّ: "أنا مبسوطة لك يا حبيبي، مبسوطة لك إنك مع السيد اليوم…" أنظر إلى الوجوه، وأجد بينها وجهًا أعرفه، أم الشهداء الأربعة، كنت قد صورتها في تشييع ابنها الرابع في ضاحية بيروت الجنوبية. تجلس اليوم بحضرة شهيدها الأخير… قبّلت وجهها كثيرًا، لم تعرفني.



ثم أجد رجاء، الشخصية الأولى، كنت قد صورتها في أول عمل جامعي لي سنة ٢٠١٩. رجاء هي بنت شهيد وأخت شهيد وشهيدة! استشهد أخوها خلال هذه الحرب في عيناثا. "أني فاطمة! اشتقتلك…" لقد عرفتني! تعانقنا طويلًا، عناق العزاء، عزاء البيت، عزاء الأخ والسند. حينها ظهرت الطائرات الحربية الإسرائيلية في السماء، في تلك الثواني المعدودات، كانت رجاء أول من هتف "الموت لاسرائيل! الموت لمن دمر بيتي، الموت لمن قتل أخي، الموت لمن ظنّ أنه بوسعه ترويعنا في يوم الثورة!"
حالي كحال الآلاف، لم أخف خلال التشييع…. شعور جميل، أن تتيقّن من أن الخوف قد اختفى.
أفتّش عن أمي، عن وجه أمي. أجدها في كل امرأة، أستعيد كلماتها قبل أيام قليلة "ما تزعلي مني يا فاطمة، بس السيد كان أغلى من كل ولادي… السيد كان أحلى حدا يا أمي… "
أفكر بها، كم هو جميل يا عزيزتي أن أستذكرك في تلك اللحظات، في اللقاء الأول.
كم هو جميل يا عزيزتي أننا في هذا التشييع!
لمَ أزعل منك؟
لمَ لا أرَ إلا جميلًا؟
لمَ أصور تشييعًا؟

