الفارّون جنوبًا
«في قرارةِ النفوس رغم كل شيء ما يزال هذا اليقين مغروسًا معلّقًا بالزّنود السُمْرِ النظيفة الممتدّة جسرًا إلى فلسطين.»
– هاني فحص، أوراق من دفتر الولد العاملي ١٩٧٩
نتعرّف على الشهداء لحظة ارتقائهم، تأسرنا شجاعتهم وتحوّط هالة القداسة تفاصيلهم بعد أن كانت عادية جدًا. نتتبّع آثارهم علّنا نعرف سرّهم الجليّ في نزيفهم، وندرك أنّ الشهادة ليست لحظة عابرة في حياة الشهداء بل هي الطريقة التي عاشوا أيامهم بها في الإعداد والبذل والإيثار، زاهدين بمتاع الدنيا، حاملين غضب الأُمّة وحزنها.
طيلة عام من الإبادة الإسرائيلية الأميركية المستمرة في غزة والممتدة إلى كل ساحات المواجهة والرفض، عَمَدَ العدو عبر المجازر الوحشية المتواصلة إلى تجهيل الشهداء وجعلهم أرقامًا مسلوبة الأسماء والكرامة الإنسانية، يطبّع موتنا اليومي كأنّه خبر عابر لا يستدعي اهتمام العالم المتواطئ لكن الغيور على الأسرى الصهاينة بقبضة المقاومة الفلسطينية. بمناسبة يوم القدس العالمي قبل ١٥ عامًا، صدح صوت الأمين العام الشهيد لحزب الله: "ليه بدنا ننسى أسامينا ونحفظ أساميهم؟ لما بتطالب بأسير وبتعمل حدث، بيصير إسمه معروف في العالم! ليه نحن أرقام وهني أسماء؟ بالأسرى هني أسماء ونحن ٩٠٠٠ و١٠٠٠٠، بالمقابر نحن أرقام وهني أسماء… نحن عنا قيمة للإنسان، حي وميت إلو كرامة، ترابُه إلو كرامة وقبرُه إلو كرامة!"
تراكم رأس المال العالمي مشروط بالحرب والإعداد للحرب، بحسب علي القادري، إنّ الهدر المتواصل لحياتنا وأرضنا ومواردنا الطبيعية يشكّل عملية منتِجة لفائض القيمة، ويصبح موتنا بحد ذاته ربحًا. لذلك، نفهم الشهادة على أنّها "المعادل الموضوعي للحياة"، بتعبير الشهيد الشقاقي. المقاومة وسيلتنا لإعادة إنتاج المجتمع لأنّها تجبر رأس المال على تحمل تكاليف الحرب، والشهادة وعيٌ ويقين بحتمية النصر مهما عظمت التضحيات.
تتصدّى بيئة المقاومة وحاضنتها الشعبية لعملية الطمس الممنهجة للموت والشهادة بممارسة الوفاء وتكثيف حضور الشهداء من خلال حفظ أسمائهم وصورهم وقصصهم ووصاياهم لإعادة إنتاج سِيَرهم في الهوية الاجتماعية والسياسية. كل شهادة ولادة، "فالشهداء لا يموتون، بل ينزرعون في الأرض، يورقون ويثمرون وتخضرّ بهم حياتنا، يحلقون في السماء، ويجيشون في الصدور دمًا جديدًا ووعيًا وعزيمة."
في ما يلي، نستعيد شذرات من سير بعض الشهداء في جبهة الإسناد والدفاع اللبنانية خلال معركة طوفان الأقصى، عسى أن تتضافر الجهود وتتوفّر الظروف المؤاتية لتكريم شعبيّ يليق بفقد المحبين وذكرى كل الأعزاء.
كان علي إدريس سلمان (٢٢ سنة) محبًا للعلم، طالبًا يدرس السنة الأولى في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية بعد أن أتمّ التخصّص في التمريض خادمًا لمجتمعه خلال أزمة انتشار وباء الكورونا. منذ اندلاع معركة الطوفان، انطلق "عبّاس" إلى الجبهة ليواجه آلة القتل الصهيونية الوحشية وارتقى قبل أيام من عيده الثالث والعشرين في ليلة من ليالي كانون الأول الباردة. للشهيد عبّاس عمٌّ ورث عنه جمال الاسم والمحيا والمصير، الشهيد المجاهد علي محمد سلمان، الذي استشهد بنفس العمر أواخر عام ١٩٨٩ مدافعًا عن الوطن في منطقة كفرملكي بإقليم التفاح. عمل "أبو عبّاس" في فريق حراسة شبيهه السيد نصر الله، عضو مجلس شورى الحزب آنذاك.
ارتقى الشهيد القائد الكشفي رائد علي خطاب (٢٩ سنة)، ابن عيتا الشعب حيث يتصدّى رفاقه في الآونة الأخيرة لمحاولات العدو المستمرة في التوغل منها إلى الأراضي اللبنانية. كان "مهدي"، وحيد أبيه المصري وأمه اللبنانية من الذكور، فُقِد جثمانه لبضعة أيام قبل أن يوارى الثرى بعد أسبوع في مقبرة البلدة وسط تشييع مهيب. تمكّن من الانخراط في القتال بعدما توجّه والداه برسالة إلى الأمين العام يقرّان فيها بموافقتهما على التحاقه بركب الجهاد. عقب تبلغها ارتقاء حبيبها، نادت الأم التي تعاني من ضعف في النظر على النساء المعزيّات ليحضرنَ لها صورة ابنها وأخذت تمسح على وجهه
خلال تأبين الشهيد المجاهد محمد علي قدوح، أمير، (١٩ سنة) الذي تخرّج حديثًا من مرحلة الثانوية، قالت أمه الصابرة في تصريح للصحافة أنّ دماء ولدها فداء وكل مقاوم في هذا العالم. لمحمد عمٌّ سُمِّي على اسمه، هو الشهيد محمد صلاح قدوح، "جواد"، استشهد في حرب تموز ٢٠٠٦، عُرف بروحه الورعة المرحة، وحبّه للكادحين، يروي والده أنه كان دائمًا ما يطلب من أمّه توضيب وجبة طعام ليقدّمها لأحد العمال في طريقه.
من مصروفه الشخصي، اشترى الفتى اليافع عبد الكريم البرناوي قطعة سلاح وتوجّه من صيدا نحو الحدود. "فرَّ جنوبًا، حمل جثّته وهاجر"، وعاد إلى حضن والديه شهيدًا من شهداء العبور. يذكّرنا البرناوي بالشهيد نزيه القبرصلي ابن الـ١٥ ربيعًا الذي ارتقى عام ١٩٨٤ بعد إطلاقه الرصاص على دورية للجيش الإسرائيلي فأوقع بينهم قتلى وجرحى، وجاءت عملية المجاهد الشاب في قوات الفجر ردًا على اعتقال والده.
بعد ساعات طويلة من البحث بين الركام عقب قصف مبنى سكني في حارة حريك بالضاحية الجنوبية استهدفت ، القائد العسكري الأول في حزب الله الشهيد فؤاد شكر، تمكّنت فرق الإنقاذ من انتشال جثتَيّ الطفلين الشهيدين حسين وأميرة فضل الله، قيل أنّهما كانا يحتضنان بعضهما البعض لحظة استشهادهما. بصوت فيه من التسليم والرضا ما فيه، أكدّت أم الشهيدين الصغيرين أنّه مهما بلغ العدو من العتو لن يفلح في ثني الناس عن خيار المقاومة، وأنّ أخيهما سيكبر غدًا وينضم إلى صفوف المجاهدين ليثأر لدم حسين وأميرة.
من الشهداء زوجات لحقن بأزواجهنّ الشهداء، كالشهيدة مريم قشاقش التي ارتقت مع ابنة أخيها الطفلة سارة في غارة طالت بلدة حانين، والشهيدة مريم زوجة الشهيد حسين عتريسي الذي استشهد عام ١٩٨٦. ومنهم الشهداء أبناء لشهداء، كالشهيد أدهم خنجر حسين ناصر "مهدي"، الذي ارتقى خلال شهر آب، أما "أبو أدهم" الشهيد والأسير فقد ارتقى خلال اقتحام موقع سُجُد عام ١٩٩٧. سُمِّيَ أدهم خنجر تيمنًا بالثائر العاملي الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وأعدم في بيروت أواخر أيّار ١٩٢٣.
خلال الحرب القائمة، عادت مخيمات الشتات الفلسطيني في لبنان الى الواجهة. من نهر البارد المحاصر أمنيًا منذ سنوات طويلة، أبعد المخيمات عن الحدود اللبنانية الفلسطينية المحتلة، عَبَر الشهيد المجاهد في سرايا القدس محمد عبد العزيز الرنتيسي. ترك "أبو علي" وصية مصوّرة شديدة الاقتضاب: "يا أهالي مخيماتنا الأعزاء، إن العودة باتت قريبة وليست بالبعيدة إلى "