Main Content
 متطوّعون يوضّبون الثياب والأطعمة لحملة "دفا" الشتويّة السنويّة في بيروت، لبنان. ١٩ كانون الأول ٢٠١٩. (مروان طحطح، مصدر عام)

 متطوّعون يوضّبون الثياب والأطعمة لحملة "دفا" الشتويّة السنويّة في بيروت، لبنان. ١٩ كانون الأول ٢٠١٩. (مروان طحطح، مصدر عام)

 

ما بعد الإحسان: عن أهمية المعونة المتبادلة خلال الثورة (١ /٢)

في اليوم ٦٧: الأحد الواقع في ٢٢ كانون الأول

تستمرّ الأزمة الاقتصادية في لبنان من دون أي بوادر انفراج، فالأسعار في إرتفاع مستمر والسعر المتداول للدولار وصل إلى ٢٣٠٠ ليرة لبنانية (انخفاض فعلي بحوالي ٣٥ في المائة). أمّا الضوابط غير الرسمية على رأس المال فتبقي الناس في ضائقة مالية وحالة من اليأس، والجميع يتخوّف من انقطاع الوقود والأدوية والغذاء. يطال هذا التدهور كافة المقيمين والمقيمات في لبنان، إلّا أنّه كارثيّ بشكل خاص لحوالي ١.٥ مليون لبناني/ة (أو ٢٨.٥ بالمئة من اللبنانيين) يعيشون دون خط الفقر، بالإضافة إلى السواد الأعظم من اللاجئين واللاجئات والعمال والعاملات المهاجرين/ات. وقد أكّدت حالات الإنتحار التي شهدتها البلاد مؤخراً في صفوف الرجال الرازحين تحت وطأة البطالة أو الإفلاس أو الدين على ضرورة إيجاد أشكال من الدعم الفوري بالتزامن مع العمل لإيجاد حلول منصفة على المدى الطويل.

لا يمكن الوثوق بالدولة اللبنانية لتأمين الحماية الإجتماعية أو الخدمات الحياتية الأساسية، إذ إنّ أكثرية الطبقة السياسية  فاسدة، راكمت الثروات من المال العام. بالتالي، يبقى نزع السياسيين عن مقاعدهم هدف أساسي، إلا أنّه لن يكفي نظراً لخطورة الوضع وترسخ السلطة في قمة الهرم.

إذن، ما هي الخيارات المتوافرة حاليًا من خارج حكم الدولة؟ إحدى أشكال المعونة التي لا بدّ من التطرّق إليها، نظرًا لدورها الحيوي في إبقاء النظام السياسي الفاسد في لبنان، هي برامج الرعاية والخدمات والسلع والأموال التي تؤمنها الأحزاب الطائفية. إذ إنّ هذا الشكل من المعونة يشكّل خطرًا أساسيًا على الحركة الثورية الراهنة، لدوره في ضمان استمرارية النظام الطائفي كما الزبائني. فقد تبيّن أنّ توزيع الخدمات من قبل الجهات الطائفية يتمّ على أسس تمييزية (وفقاً للانتماء الحزبي والطائفي)، ممّا يضعف صوت الفقراء السياسي من خلال تقويض القنوات البديلة لرفع المطالب من جهة، وإنتاج وتعزيز أوجه اللامساواة الاجتماعية.أن الغرض من إنشاء شبكات المساعدة المتبادلة ودعمها ليس مساعدة الآخرين وحسب، بل بناء مجتمعات قوية ومستدامة وذاتية الإكتفاء تكون قادرة على دعم كافة أعضائهاعملت المنظمات غير الحكومية، في بعض الأحيان، على سد الثغرات في الخدمات الرسمية المقدمة، جاذبةً التمويل الأجنبي للوصول إلى الفئات الأكثر تهميشًا من قبل الدولة. كما ساهمت الجمعيات الخيرية في هذا الشكل من المعونة، من خلال تأمين بعض الحاجات الأساسية للمجتمعات الفقيرة. لكن تشوب هذين الهيكلين للمعونة إشكاليات جوهرية. أولاً، إنّ علاقة تسوّل الهبات المهيمنة في عمل كل من المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية، تعيد إنتاج الهرمية الطبقية السائدة في المنظومة اللبنانية الحالية. نجد مثلاً أنّ العمل في هذه المؤسسات محصور بفئة محددة من المجتمع. فالمانحون/ات أكثر ثراءً وسلطة نسبة للمتلقين/ات أساساً، ويعود للفئة الأولى القرار في ما يتم تقديمه ولمن. أما المتلقين/ات فينحصر دورهم/ن في تلقي المساعدة دون المشاركة في عملية صنع القرار. ثانياً، قلّما تسعى الجمعيات لتحدي البنى الاقتصادية والسياسية المنتِجة للّامساواة والتي بدورها تنتج الحاجة للمنظمات غير الحكومية عينها، لا بل تأتي الخدمات المقدَمة لتتستّر عن التبعات السلبية لسياسات التقشف والمركزية الإقتصادية، مضعفةً بذلك المقاومة الصريحة لها. وبالتالي فهي تسمح ببقاء هذه السياسات وما تنتجه من إفقارٍ للمجتمعات المتأثرة (وقد كتبت أرونداتي روي عن الموضوع بشكل ممتاز). وخلاصة القول هنا تفيد بأنّ المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية ليست بخيار مستدام، بل تشكّل حلًا آنيًا للمشكلة، يعالج الأعراض، لا المرض. إلا أنّ الداء نفسه - الفساد البنيوي والتقشف والاستغلال - هو ما دفع بالناس للنزول إلى الشوارع.

منذ تشرين الأول 2019، تشهد الساحات في كافة أنحاء البلاد تحركات قاعدية عفوية مستقلة عن أطر التنظيم الحكومية أو تلك التابعة للمنظمات غير الحكومية. ويتم تقديم الدعم القانوني مجاناً للمتظاهرين والمتظاهرات، أو التبرّع بالمأكل والملبس، بالإضافة إلى "مطبخ الساحة" الذي يوزع الطعام في ساحة الشهداء. تنبع هذه الجهود من إحساس ذوي وذوات النوايا الحسنة بضرورة المبادرة للاستجابة لتدهور الأحوال. ونشهد كل يوم إفتتاح مراكز تابعة لمبادرات مجتمعية أو إطلاق صناديق غذائية للمحتاجين والمحتاجات. تُظهر هذه المبادرات سخاء الأفراد من جهة، وإدراكهم لضرورة المبادرة، إلا أنّها لا تتخطّى نموذج الهبات. لم نشهد إلى الآن نشوء مبادرة من صلب مجتمع محلي يتنظّم لتأمين المعونة التي يحتاجها. لا بد لنا في هذه المرحلة من دراسة كيفية تحويل هذه الطاقة إلى شبكات منظمة ودائمة وقابلة للنمو والتطوّر من قبل المجتمع الذي نشأت منه ولأجله.

المعونة المتبادلة هي استراتيجية تجمع بين تخصيص الموارد وبناء تنظيمات مجتمعية. بشكلها الأساسي، تتمثّل استراتيجية المعونة المتبادلة ببناء شبكات رعاية اجتماعية يقودها المجتمع نفسه، تعمل بشكل لا هرمي وتضع الأكثر تعرضًا للظلم في صلب آلية صنع القرار، وبالتالي تضمن وصول المعونة إلى الأشد حاجة أولًا. لكن لا يمكن اعتبار المعونة المتبادلة برنامجًا وطنيًّّا أو سياسة رسمية قادرة على تلبية كافة الإحتياجات. بل هي دعوة للأفراد في المجتمع الواحد للّقاء وتبادل المعونة عند وحسب الحاجة في ما يتعلق بضروريات الحياة كالمأكل والملبس والدواء. أمّا ترجمة هذه الإستراتيجية من المبدأ إلى التطبيق الفعلي فتعود للمجتمع المعني كليّا. لا بد للمجتمع المحلي من التنظيم والإجتماع وتحديد الحاجات والحلول اللازمة.المعونة المتبادلة هي شكل من أشكال التنظيم الذاتي الذي يُنتِج مردودًا فوريًا. لسنا مضطرين/ات لانتظار إنهيار الدولة مكتوفي/ات الأيدي ولا موافقة منظمة غير حكومية، يمكننا البدء بتوسيع شبكات المعونة الطوعية القائموالأهم من ذلك، أن الغرض من إنشاء شبكات المساعدة المتبادلة ودعمها ليس مساعدة الآخرين وحسب، بل بناء مجتمعات قوية ومستدامة وذاتية الإكتفاء تكون قادرة على دعم كافة أعضائها. إلا أن ذلك لا يتحقق ما لم نتخطى دينامية الهبة ضمن مبادرات المعونة الأكثر شيوعاً في الوقت الحالي. إن كانت المنظمات غير الحكومية تنتظم وفقاً لنمط تنازلي (من القمة إلى القاعدة) للتوزيع، فإنّ المعونة المتبادلة تعتمد النمط التصاعدي (من القاعدة إلى القمة) للتنظيم. وبالتالي لا تقوم نخبة من الميسورين والميسورات باتخاذ القرارات، بل تُعقَد التنظيمات المجتمعية المحلية عبر الدعوة لاجتماعات لجمع وتوزيع المعونة على الأعضاء. ليس الهدف من المعونة هنا مساعدة المحتاج او المحتاجة، بل هو أقرب إلى إنشاء اقتصادات مصغرة على الصعيد المجتمعي. المطابخ والمزارع والمراكز التعليمية وحضانات الأطفال والعيادات والتمويل المجتمعي، كلها أمثلة على هيكليات المعونة المتبادلة التي يمكن أن تظهر على مستوى الأحياء. تُنتِج هذه المبادرات علاقات غير قائمة على المقايضة كما في العمل الخيري، فالمنطق فيها مبني على تطوير روابط مجتمعية ترفع إمكانيات أعضائها. تنشأ المجتمعات التضامنية هذه في حالة من اثنتين، إما تواجد الأعضاء في نفس المساحة الجغرافية (جيران، أهل البلدة) أو أن يجمع بينهم/ن تعرّضهم/ن للإضطهاد من قبل نفس القوى الإجتماعية (النقابات أو المجموعات الكويرية أو الحركات النسوية أو غير ذلك). في الحالة الأخيرة، تأتي هيكليات المعونة المتبادلة لبناء مجتمعات تضامنية بين الذين واللواتي يتعرضن  للقمع على يد هيكليات السلطة القمعية بالتزامن مع مطالبة هؤلاء بتفكيك هذه الهيكليات. بالإضافة إلى ذلك، تساعد المعونة المتبادلة على إضعاف نفوذ الدولة وقدرتها على السيطرة، وذلك من خلال توفير بدائل ممكنة لتأمين أساسيات الحياة.

المعونة المتبادلة هي شكل من أشكال التنظيم الذاتي الذي يُنتِج مردودًا فوريًا. لسنا مضطرين/ات لانتظار إنهيار الدولة مكتوفي/ات الأيدي ولا موافقة منظمة غير حكومية، يمكننا البدء بتوسيع شبكات المعونة الطوعية القائمة. لما لا ننظّم على الصعيد المحلي بشكل تعاوني وغير هرمي؟ لعلنا ننجو من الأزمة الإقتصادية الحالية، لا بل نساهم في تحقيق أهداف الثورة أيضاً.

يناقش الجزء الثاني من هذا المقال هيكليات المساعدات المتبادلة الناشئة في لبنان وكيفية تحسينها بناءً على أمثلة تاريخية وإقليمية.

    image/svg+xml

    هل هذه القصة قيّمة برأيكم؟ ساعدونا في الاستمرار لإنتاج القصص التي تهمكم من خلال التبرع اليوم! تضمن مساهمتكم استمرارنا كمصدر مُجدٍ ومستقل وجدير بالثقة للصحافة المعنية بالمصلحة العامة.